للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويعوّق أيضا هذا الجبل إشراق الشّمس على أرض مصر، إذا كانت على الأفق فيكون زمان لبث الشّعاع على هذه الأرض أقلّ من الطّبيعي، ومثل هذه الحال سبب لركود الهواء وغلظه.

وأرض مصر أرض كثيرة الحيوان والنّبات جدّا، لا تكاد تجد فيها موضعا خلوا من الحيوان والنّبات وهي أرض متخلخلة، فإنّك تراها عند انصراف النّيل بمنزلة الحمأة، فإذا حلّلت الحرارة ما فيها من الرّطوبة تشقّقت شقوقا عظاما، والمواضع الكثيرة من الحيوان والنّبات أرض كثيرة العفونة.

وقد اجتمع على أرض مصر حرارة مزاجها وسخافتها (a)، وكثرة ما فيها من الحيوان والنّبات، فأوجب ذلك احتراقها وسواد طينها، وصارت أرضا سوداء، وما قرب منها من الجبل سبخ إمّا بورقيّ أو مالح، ويظهر من أرض مصر بالعشيّات بخار أسود أو أغبر، وخاصّة في أيام الصّيف.

وأرض مصر ذات أجزاء كثيرة، ويختصّ كلّ جزء منها بشيء دون غيره. وعلّة ذلك ضيق عرضها، واشتمال طولها على عرض الإقليم الثاني والثالث، فإنّ الصّعيد فيه من النّخل والسّنط وآجام القصب والبردي، ومواضع إحراق الفحم وغير ذلك شيء كثير، والفيّوم فيه من النّقايع وآجام القصب ومواضع تعطين الكتّان شيء كثير، وأسفل أرض مصر فيه من النّبات أنواع كثيرة كالقلقاس والموز وغير ذلك. وبالجملة فكلّ بقعة من أرض مصر لها أشياء تختصّ بها وتتفضّل عن غيرها (١).

قال: والنّيل يرطّب يبس الصّيف والخريف، فقد استبان أنّ المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة والرّطوبة الفضيلة، وأنّها ذات أجزاء كثيرة، وأن هواءها وماءها رديئان، وقد بيّن الأوائل أنّ المواضع الكثيرة العفن يتحلّل منها في الهواء فضول كثيرة لا تدعه يستقرّ على حال لاختلاف تصعّدها.

وقد كان استبان أنّ هواء أرض مصر يسرع إليه التّغيّر، لأنّ الشّمس لا يثبت على أرض مصر شعاعها المدّة الطبيعية، فمن أجل هذين كثر اختلاف هواء أرض مصر، فصار يوجد في اليوم الواحد على حالات مختلفة: مرّة حرّ، ومرّة برد، ومرّة يابس، وأخرى رطب، ومرّة متحرّك،


(a) ساقطة من بولاق.
(١) ابن رضوان: دفع مضار الأبدان ١١١ - ١١٤.