فلمّا مات نور الدّين محمود بن زنكي، توجّه السّلطان صلاح الدّين في أوّل صفر سنة سبعين إلى الشّام، وملك دمشق بغير مانع، وأبطل ما كان يؤخذ بها من المكوس كما أبطلها من ديار مصر (١)، وأخذ حمص وحماة، وحاصر حلب وبها الملك الصّالح مجير الدّين إسماعيل بن العادل نور الدّين محمود بن زنكي، فقاتله أهلها قتالا شديدا فرحل عنها إلى حمص، وأخذ بعلبك بعد (a) حصار. ثم عاد إلى حلب، فوقّع الصّلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشّام مع المعرّة وكفرطاب، ولهم ما بأيديهم. وعاد فأخذ بغراس بعد حصار، وأقام بدمشق، وندب قراقوش التّقوي لأخذ بلاد المغرب، فأخذ أوجله (b) وعاد إلى القاهرة. وكانت بين السّلطان وبين الجلبيين وقعة هزمهم فيها وحصرهم بحلب أيّاما، وأخذ بزاعة ومنبج وعزاز (٢)، ثم عاد إلى دمشق.
وقدم القاهرة في سادس عشرين ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين، بعدما كانت لعساكره حروب كثيرة مع الفرنج، فأمر ببناء سور يحيط بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل، وأقام على بنائه الأمير بهاء الدّين قراقوش الأسدي (٣). فشرع في بناء قلعة الجبل وعمل السّور وحفر الخندق حوله (٤). وبدأ السّلطان بعمل مدرسة بجوار قبر الإمام الشّافعي (٥) في القرافة، وعمل مارستانا بالقاهرة (٦).
وتوجّه إلى الإسكندرية فصام بها شهر رمضان وسمع الحديث على الحافظ أبي طاهر أحمد السّلفي (٧)، وعمّر الأسطول، وعاد إلى القاهرة، وأخرج قراقوش التّقويّ إلى بلاد المغرب، وأمر بقطع ما كان يؤخذ من الحجّاج، وعوّض أمير مكّة عنه في كلّ سنة ألفي دينار وألف أردبّ غلّة، سوى إقطاعه بصعيد مصر وباليمن ومبلغه ثمانية آلاف أردبّ.
(a) بولاق: بغير. (b) بولاق: أيجلن. (١) انظر أبا شامة: الروضتين ٤٤٣: ١، ٥٢٢. (٢) راجع، ياقوت: معجم البلدان ٤٠٩: ١، ١١٨: ٤، ٢٠٥: ٥. (٣) فيما تقدم ٢٦٤: ٢ - ٢٦٧. (٤) فيما تقدم ٢٦٤: ٢ - ٢٦٧. (٥) ابن جبير: الرحلة ٢٢ - ٢٣، وتم الفراغ من بنائها سنة ٥٧٥ هـ/ ١١٧٩ م. (٦) راجع وصف ابن جبير لمارستان صلاح الدّين في الرّحلة ٢٦؛ وفيما تقدم ٣٥٠: ٢. (٧) الإمام الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السّلفي. أحد كبار الحفّاظ أصحاب الرحلة في طلب العلم (الحديث) أصله من أصبهان واستقر به المقام بالإسكندرية وبها توفي سنة ٥٧٦ هـ/ ١١٨٠ م عن مائة وست سنين، سمع عليه الناصر صلاح الدين الحديث بالإسكندرية وأكل عنده طعاما، وأرسل إليه صلاح الدين بمال فقبله. (ابن خلكان: وفيات الأعيان ١٠٥: ١ - ١٠٧؛ السبكي: طبقات الشافعية الكبرى ٣٢: ٦ - ٤٤؛ الصفدي: الوافي بالوفيات ٣٥١: ٧ - ٣٥٦؛ المقريزي: المقفى الكبير ٧٠٦: ١ - ٧١١).