ثم جلس لها خلفاء بني العبّاس، وأوّل من جلس منهم المهدي محمد، ثم الهادي موسى، ثم الرّشيد هارون، ثم عبد اللّه المأمون، وآخر من جلس منهم المهتدي باللّه محمد بن الواثق.
وأوّل من أعلم أنّه جلس بمصر من الأمراء للنّظر في المظالم الأمير أبو العبّاس أحمد بن طولون، فكان يجلس لذلك يومين في الأسبوع. فلمّا مات وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، جعل على المظالم بمصر محمد بن عبدة بن حرب، في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ثم جلس لذلك الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيدي، وابتدأ ذلك في سنة أربعين وثلاث مائة - وهو يومئذ خليفة الأمير أبي القاسم أونوجور بن الإخشيد - فعقد مجلسا صار يجلس فيه كلّ يوم سبت، ويحضر عنده الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات وسائر القضاة والفقهاء والشّهود ووجوه البلد. وما برح على ذلك مدّة أيّامه بمصر إلى أن مات، فلم ينتظم أمر مصر بعده، إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر بجيوش الإمام (a) المعزّ لدين اللّه أبي تميم معدّ، فكان يجلس للنّظر في المظالم، ويوقّع على رقاع المتظلّمين. فمن توقيعاته بخطّه على قصّة رفعت إليه:
«سوء الاجترام أوقع بكم طول الانتقام، وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام. فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاجتناب، لأنّكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعدّيتم. فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة تقتضي إلاّ الذّم لكم، والإعراض عنكم، ليرى أمير المؤمنين - (b) صلوات اللّه عليه (b) - رأيه فيكم» (١).
ولمّا قدم المعزّ لدين اللّه إلى مصر، وصارت دار خلافة، استقرّ النّظر في المظالم مدّة يضاف إلى قاضي القضاة، وتارة ينفرد بالنّظر فيه أحد عظماء الدّولة. فلمّا ضعف جانب المستنصر باللّه أبي تميم معدّ بن الظّاهر، وكانت الشّدّة العظمى بمصر، قدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القاهرة وولي الوزارة، فصار أمر الدّولة كلّه راجعا إليه، واقتدى به من بعده من الوزراء. وكان الرّسم في ذلك أنّ الوزير ربّ (c) السّيف يجلس للمظالم بنفسه، ويجلس قبالته قاضي القضاة وبجانبه شاهدان معتبران، ويجلس بجانب الوزير الموقّع بالقلم الدّقيق، ويليه صاحب ديوان المال، ويقف
(a) ساقطة من بولاق. (b-b) ساقطة من بولاق. (c) بولاق: صاحب. (١) هذا النّصّ منقول عن أبي حيّان التوحيدي: البصائر والذخائر ١٨٤: ١، وانظر فيما تقدم ٢٦٠: ٢.