فاضطّرب المسجد، وكان النّاس متوافرين، فقام الفضل وصار إلى المأمون بالخبر، وقال:
خفت على نفسي من ثوران النّاس مع الحارث.
فأرسل المأمون إلى الحارث فدعاه، فابتدأه بالمساءلة، فقال: ما تقول في هذين الرّجلين؟ فقال: ظالمين غاشمين. قال: هل ظلماك بشيء؟ قال: لا. قال: فعاملتهما؟ قال: لا. قال:
فكيف شهدت عليهما؟ قال: كما شهدت أنّك أمير المؤمنين ولم أرك قطّ إلاّ السّاعة، وكما شهدت أنّك غزوت ولم أحضر غزوك. قال: اخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد، وبع قليلك وكثيرك فإنّك لا تعاينها أبدا. وحبسه في رأس الجبل في قبّة ابن هرثمة.
ثم انحدر المأمون إلى البشرود وأحدره (a) معه. فلمّا فتح البشرود أحضر الحارث. فلمّا دخل عليه سأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر، فردّ عليه الجواب بعينه، فقال: فأيّ شيء تقول في خروجنا هذا؟ قال: أخبرني عبد الرّحمن بن القاسم، عن مالك، أنّ الرّشيد كتب إليه في أهل دهلك يسأله عن قتالهم، فقال: إن كانوا خرجوا عن ظلم من السّلطان فلا يحلّ قتالهم، وإن كانوا إنّما شقّوا العصا فقتالهم حلال.
فقال المأمون: أنت تيس، ومالك أتيس منك، ارحل عن مصر. قال: يا أمير المؤمنين إلى الثّغور؟ قال: الحق بمدينة السّلام. فقال له أبو صالح الحرّاني: يا أمير المؤمنين تغفر زلّته. قال:
يا شيخ تشفّعت، فارتفع.
ولمّا بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبّة الهواء هذه، كان كثيرا ما يقيم فيها، فإنّها كانت تشرف على قصره. واعتنى بها الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وجعل لها السّتور الجليلة والفرش العظيمة، في كلّ فصل ما يناسبه.
فلمّا زالت دولة بني طولون، وخرب القصر والميدان، كانت قبّة الهواء ممّا خرب - كما تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب - ثم عمل موضع قبّة الهواء مقبرة، وبني فيها عدّة مساجد (١).