فلمّا فتح اللّه تعالى الشّام، ألحّ معاوية بن أبي سفيان - وهو يومئذ على جند دمشق والأردن - على عمر ﵁ في غزو البحر، وقرب الرّوم من حمص؛ وقال:«إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم»، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر اتّهم معاوية لأنّه المشير.
وأحبّ عمر أن يردعه فكتب إلى عمرو بن العاص - وهو على مصر - «أن صف لي البحر وراكبه، فإنّ نفسي تنازعني إليه وأنا أشتهى خلافها». فكتب إليه:«يا أمير المؤمنين إنّي رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلاّ السّماء والماء؛ إن ركد حزن القلوب، وإن زلّ أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلّة والشّكّ كثرة؛ هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق»(١).
فلمّا جاءه كتاب عمرو، كتب إلى معاوية:«لا - والذي بعث محمدا بالحقّ - لا أحمل فيه مسلما أبدا، إنّا قد سمعنا أنّ بحر الشّام يشرف على أطول شيء في الأرض يستأذن اللّه تعالى في كلّ يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها. فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب؟ وتاللّه لمسلم واحد أحبّ إليّ مما حوته الرّوم. فإيّاك أن تعرض لي - وقد تقدّمت إليك وقد علمت ما لقي العلاء منّي ولم أتقدّم إليه - في مثل ذلك».
وعن عمر ﵁ أنّه قال: لا يسألني اللّه ﷿ عن ركوب المسلمين البحر أبدا. وروى عنه ابنه عبد اللّه ﵄ أنّه قال: لولا آية في كتاب اللّه تعالى لعلوت راكب البحر بالدرّة.
ثم لمّا كانت خلافة عثمان بن عفّان ﵁ غزا المسلمون في البحر، وكان أوّل من غزا فيه معاوية بن أبي سفيان، وذلك أنّه لم يزل بعثمان حتى عزم على ذلك بأخرة (a)، وقال: لا تستحث (b) النّاس ولا تقرع بينهم؛ خيّرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه. ففعل،
(a) بولاق: فأخّره. (b) بولاق: وقال: تنتخب. (١) قارن مع ابن خلدون، المقدمة ٦٩٠. وهنا حاشية بخطّ المؤلّف: «قوله: وإن نجا برق، البرق، الدّهش والحيرة، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذا بَرِقَ اَلْبَصَرُ﴾ [الآية ٧ سورة القيامة]، يعني: إذا حار عند الموت. ومن قرأ بفتح الراء أراد بريقه إذا شخص، وأراد عمرو أنّ راكب البحر إمّا أن يغرق وإمّا أن يكون فيه مدهوشا. وروي أن عمرا قال: بين غرق وبرق».