عيسى بن رستم الماذرائي (a)، أحد عظماء الدّنيا (١)، ولد بنصيبين لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وخلف أباه عليّ بن أحمد الماذرائي (a) أيام نظره في أمور أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وسنّه يومئذ خمس عشرة سنة.
وكان معتدل الكتابة، ضعيف الحظّ من النّحو واللّغة، ومع ذلك فكان يكتب الكتب إلى الخليفة فمن دونه على البديهة من غير نسخة، فيخرج الكتاب سليما من الخلل. ولمّا قتل أبوه في سنة ثمانين ومائتين استوزره هارون بن خمارويه، فدبّر أمر مصر إلى أن قدم ابن سليمان الكاتب من بغداد إلى مصر، وأزال دولة بني طولون وحمل رجالهم إلى العراق. فكان أبو بكر ممّن حمله، فأقام ببغداد إلى أن قدم صحبة العساكر لقتال حباسة، فدبّر أمر البلد، وأمر ونهى، وحدّث بمصر عن أحمد بن عبد الجبّار العطاردي وغيره بسماعه منهم في بغداد.
وكان قليل الطّلب للعلم، تغلب عليه محبّة الملك وطلب السّيادة، ومع ذلك كان يلازم تلاوة القرآن الكريم، ويكثر من الصّلاة، ويواظب على الحجّ. وملك بمصر من الضّياع الكبار ما لم يملكه أحد قبله، وبلغ ارتفاعه في كلّ سنة أربع مائة ألف دينار سوى الخراج، ووهب وأعطى، وولّى وصرف، وأفضل ومنع، ورفع ووضع، وحجّ سبعا وعشرين حجّة أنفق في كلّ حجّة منها مائة وخمسين ألف دينار. وكان تكين أمير مصر يشيّعه إذا خرج للحجّ، ويتلقّاه إذا قدم.
وكان/ يحمل إلى الحجاز جميع ما يحتاج إليه، ويفرّق بالحرمين الذّهب والفضّة والثّياب والحلوى والطّيب والحبوب، ولا يفارق أهل الحجاز إلاّ وقد أغناهم. وقيل مرّة وهو بالمدينة النّبوّية - على ساكنها أفضل الصّلاة والسّلام -: ما بات في هذه الليلة أحد بمكّة والمدينة وأعمالهما إلاّ وهو شبعان من طعام أبي بكر الماذرائي (a).
ولمّا قدم الأمير محمد بن طغج الإخشيد إلى مصر استتر منه، فإنّه كان منعه من دخول مصر، وجمع العساكر لقتاله. فاجتمع له زيادة على ثلاثين ألف مقاتل، وحارب بهم بعد موت تكين
(a) بولاق: المارداني. (١) أورد المقريزي نصّ هذه الترجمة في كتاب المقفى الكبير ٢٣٤: ٦ - ٢٤٧، مع تفاصيل أكثر نقلا عن سيرة الماذرائيين لابن زولاق؛ وانظر عن الماذرائيين عموما فيما تقدم ٢٢٠: ١.