للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال ابن المأمون: في هذا الشهر - يعني شهر ذي الحجّة سنة ستّ عشرة وخمس مائة - جرت نوبة القصّار - وهي طويلة وأوّلها من الأيام الأفضليّة، وكان فيهم رجلان يسمّى أحدهما بركات، والآخر حميد بن مكّي الإطفيحي القصّار - مع جماعة يعرفون بالبديعيّة، وهم على الإسلام والمذاهب الثلاثة المشهورة، وكانوا يجتمعون في دار العلم بالقاهرة. فاعتمد بركات من جملتهم أن استفسد عقول جماعة، وأخرجهم عن الصّواب - وكان ذلك في أيام الأفضل - فأمر للوقت بغلق دار العلم والقبض على المذكور، فهرب.

وكان في (a) جملة من استفسد عقله بركات المذكور أستاذان من القصر. فلمّا طلب بركات المذكور واستتر، دقّق الأستاذن الحيلة إلى أن أدخلاه عندهما في زيّ جارية اشترياها، وقاما بحقّه وجميع ما يحتاج إليه، وصار أهله يدخلون إليه في بعض الأوقات. فمرض بركات عند الأستاذين، فحارا في أمره ومداواته، وتعذّر عليهما إحضار طبيب له، واشتدّ مرضه ومات، فأعملا الحيلة، وعرّفا زمام القصر أن إحدى عجائزهما قد توفّيت، وأنّ عجائزهما يغسّلنها على عادة القصوريات (b) ويشيّعنها إلى تربة النّعمان بالقرافة (١)، وكتبا عدّة من يخرج. ففسح لهما في العدّة، وأخذا في غسله، وألبساه ما أخذاه من أهله - وهو ثياب معلّمة وشاشيّة ومنديل وطيلسان مقوّر - ودرّجوه (c) في الدّبيقي، وتوجّه مع التّابوت الأستاذان المشار إليهما. فلمّا قطعوا به بعض الطّريق أراد تكميل الأجر له على قدر عقولهما، فقالا للحمّالين: هو رجل تربيته عندنا، فنادوا عليه نداء الرّجال واكتموا الحال، وهذه أربعة دنانير لكم، فسرّ الحمّالون بذلك. فلمّا عادوا إلى صاحب الدّكّان عرّفوه بما جرى وقاسموه الدّنانير، فخافت نفسه، وعلم أنّها قضيّة لا تخفى، فمضى بهم إلى الوالي وشرح له القضيّة. فأودعهم في الاعتقال، وأخذ الذّهب منهم، وكتب مطالعة بالحال.

فمن أوّل ما سمع القائد أبو عبد اللّه بن فاتك - الذي قيل له بعد ذلك المأمون - بالقضيّة - وكان مدبّر الأمور في الأيام الأفضليّة - قال: هو بركات المطلوب. وأمر بإحضار الأستاذين والكشف عن القضيّة، وإحضار الحمّالين والكشف عن القبر بحضورهم؛ فإذا تحقّقوه أمرهم


(a) بولاق: من.
(b) بولاق: القصور.
(c) بولاق: أدرجوه.
(١) هذه الإشارة الوحيدة إلى تربة النعمان بالقرافة في كتاب الخطط نقلا عن ابن المأمون، ولم يفردها المقريزي بمدخل مستقل عند حديثه على القرافة.