ولمّا طلع الموكب من ربوة المصلّى، ترجّل متولّي الباب والحجّاب، ووقف الخليفة بجمعه بالمظلّة إلى أن اجتاز المأمون راكبا بمن حول ركابه، وردّ الخليفة السّلام عليه بكمّه، وصار أمامه، وترجّل الأمراء المميّزون والأستاذون المحنّكون بعدهم وجميع الأجلاّء، وصار كلّ منهم يبدأ بالسّلام على الوزير ثم على الخليفة إلى أن صار الجميع في ركابه.
ولم يدخل من باب المصلّى راكبا غير الوزير خاصّة، ثم ترجّل على بابه الثاني إلى أن وصل الخليفة إليه، فاستدعى به، فسلّم وأخذ الشّكيمة بيده إلى أن ترجّل الخليفة في الدّهليز الآخر، وقصد المحراب والمؤذّنون يكبّرون قدّامه.
واستفتح الخليفة في المحراب، ومسامته فيه وزيره، والقاضي والدّاعي عن يمينه وشماله، ليوصّلوا التّكبير لجماعة المؤذّنين من الجانبين، ويتّصل منهم التّكبير إلى مؤذّني مصلّى الرّجال والنّساء الخارجين على المصلّى الكبير، وكاتب الدّست وأهله ومتولّي ديوان الإنشاء يصلّون تحت عقد المنبر، ولا يمكّن غيرهم أن يكون معهم.
ولمّا قضى الخليفة الصّلاة وهي ركعتان: قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب (a) و ﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ اَلْغاشِيَةِ﴾ [الآية ١ سورة الغاشية]، وكبّر سبع تكبيرات، وركع وسجد، وفي الثانية بالفاتحة وسورة ﴿وَاَلشَّمْسِ وَضُحاها﴾ [الآية ١ سورة الشمس]، وكبّر خمس تكبيرات - وهذه سنّة الجميع ومن ينوب عنهم في صلاة العيدين على الاستمرار - وسلّم وخرج من المحراب وعطف عن يمينه، والحرص عليه شديد، ولا يصل إليه إلاّ من كان خصيصا به، وصعد المنبر بالخشوع والسّكينة، وجميع من بالمصلّى والبريّة (b) لا يسأم نظره، ويكثرون من الدّعاء له. ولمّا حصل في أعلى المنبر أشار إلى الأجلّ (c) المأمون فقبّل الأرض، وسارع في الطّلوع إليه وأدّى ما يجب من سلامه وتعظيم مقامه ووقف بأعلى درجة. وأشار إلى القاضي فتقدّم وقبّل كلّ درجة إلى أن يصل إلى الدرجة الثالثة، وقف عندها، وأخرج الدّعو من كمّه وقبّله ووضعه على رأسه، واستدعى (d) بمن تضمّنه، وهو ما جرت به العادة من تسمية يوم العيد وسنّته والدّعاء للدّولة، وكانت الحال في أيّام وزراء الأقلام والسّيوف إذا حصل الخليفة في أعلى بقي الوزير مع غيره، وأشار الخليفة إلى القاضي، فيقبّل الأرض ويطلع إلى الدّرجة الثالثة ويخرج الدّعو من كمّه ويقبّله ويضعه على رأسه، ويذكر يوم العيد وسنّته والدّعاء للدّولة، ثم يستدعى بالوزير بعد ذلك، فيصعد بعد القاضي. فراعى الخليفة ذلك الأمر في حقّ الوزير، فجعل الإشارة منه إليه أوّلا، ورفعه عن أن يكون مأمورا مثل غيره، وجعلها له ميزة على غيره ممّن تقدّمه، واستمرّت فيما بعد.
(a) آياصوفيا: بالفاتحة. (b) بولاق: التربة. (c) زيادة من المسودة. (d) بولاق: وأعلى.