هذا والعبيد ببلاد الصّعيد على حالهم، وبالإسكندرية أيضا منهم جمع كثير، فسار ابن حمدان إلى الإسكندرية وحاصرهم فيها مدّة حتى سألوه الأمان، فأخرجهم وأقام فيها من يثق به.
وانقضت هذه السّنة كلّها في قتال العبيد (١).
ودخلت سنة ستين وأربع مائة وقد خرق الأتراك ناموس المستنصر، واستهانوا به واستخفّوا بقدره، وصار مقرّرهم في كلّ شهر أربع مائة ألف دينار بعد ما كان ثمانية وعشرين ألف دينار، ولم يبق في الخزائن مال، فبعثوا يطالبونه بالمال، فاعتذر إليهم بعجزه عن ما طلبوه، فلم يعذروه وقالوا: بع ذخائرك، فلم يجد بدّا من إجابتهم، وأخرج ما كان في القصر من الذّخائر، فصاروا يقوّمون ما يخرج إليهم بأخسّ القيم وأقلّ الأثمان، ويأخذون ذلك في واجباتهم.
وتجهّز ابن حمدان، وسار إلى الصّعيد يريد قتال العبيد - وكانت شرورهم قد كثرت، وضررهم وفسادهم قد تزايد - فلقيهم وواقعهم غير مرّة، والأتراك تنكسر منهم وتعود إلى محاربتهم إلى أن حمل العبيد عليهم حملة انهزموا فيها إلى الجيزة. فأفحشوا عند ذلك في أمر المستنصر، ونسبوه إلى مباطنة العبيد وتقويتهم، فأنكر ذلك وحلف عليه. فأخذوا في إصلاح شأنهم ولمّ شعثهم، وساروا لقتال العبيد، وما زالوا يلحّون في قتالهم حتى انكسرت العبيد كسرة شنيعة، وقتل منهم خلق كثير وفرّ من بقي، فذهبت شوكتهم، وزالت دولتهم. ورجع ابن حمدان وقد كشف قناع الحياء، وجهر بالسّوء للمستنصر، واستبدّ بسلطنة البلاد (٢).
ودخلت سنة إحدى وستين وابن حمدان مستبدّ بالأمر مجاف للمستنصر، فثقل مكانه على الأتراك، وتفرّغوا من العبيد، والتفتوا إليه وقد استبدّ بالأمور دونهم، واستأثر بالأموال عليهم، ففسد ما بينهم وبينه، وشكوا منه إلى الوزير خطير الملك (٣)، فأغراهم به، ولامهم على ما كان من تقويته، وحسّن لهم الثّورة به. فصاروا إلى المستنصر ووافقوه على ذلك، فبعث إلى ابن حمدان يأمره بالخروج عن مصر، ويهدّده إن امتنع. فلم يقدر على الامتناع منه لفساد الأتراك عليه
(١) ابن ميسر: أخبار مصر ٣١ - ٣٢؛ النويري: نهاية الأرب ٢٢٥: ٢٨ - ٢٢٧؛ المقريزي: اتعاظ الحنفا ٢٧٣: ٢ - ٢٧٤. (٢) نفسه ٣٢ - ٣٣؛ نفسه ٢٢٧: ٢٨ - ٢٢٩؛ نفسه ٢٧٥: ٢ - ٢٧٦. (٣) الوزير خطير الملك محمد بن الحسن بن علي اليازوري، استقر في القضاء والوزارة جميعا في ثالث عشر صفر سنة ٤٦١ هـ/ ١٠٦٨ م، وصرف عنها في شوال من نفس السنة، (ابن ميسر: أخبار مصر ١٧، ٣٤، ٣٥؛ المقريزي: اتعاظ الحنفا ٢٧٨: ٢، المقفى الكبير ٥٤٩: ٥ - ٥٥٠؛ ابن حجر: رفع الإصر ١٣٦).