فكرهت الأتراك ذلك، وكان ما ذكر (١). فظفر بعض الأتراك يوما بشيء من المال والسّلاح قد بعثت به أمّ المستنصر إلى العبيد تمدّهم به بعد انهزامهم من كوم شريك، فاجتمعوا بأسرهم، ودخلوا على المستنصر وأغلظوا في القول؛ فحلف أنّه لم يكن عنده علم بما ذكر، وصار إلى أمّه فأنكرت ما فعلت.
وخرج الأتراك فصار السّيف قائما، ووقعت الفتنة ثانيا، فانتدب المستنصر أبا الفرج بن المغربي ليصلح بين الطائفتين، فاصطلحا على غلّ، وخرج العبيد إلى شبرا دمنهور، فكان هذا أوّل اختلال أحوال أهل مصر (٢). ودبّت عقارب العداوة بين الفئتين إلى سنة تسع وخمسين، فقويت شوكة الأتراك، وضروا على المستنصر، وزاد طمعهم/ فيه، فطلبوا منه الزيادة في واجباتهم وضاقت أحوال العبيد واشتدّت ضرورتهم، وكثرت حاجتهم، وقلّ مال السّلطان واستضعف جانبه.
فبعثت أمّ المستنصر إلى قوّاد العبيد تغريهم بالأتراك، فاجتمعوا بالجيزة، وخرج إليهم الأتراك ومقدّمهم ناصر الدين حسين بن حمدان، فاقتتلا عدّة مرار ظهر في آخرها الأتراك على العبيد، وهزموهم إلى بلاد الصّعيد. فعاد ابن حمدان إلى القاهرة، وقد عظم أمره وقوي جأشه، وكبرت نفسه واستخفّ بالخليفة، فجاءه الخبر أنّه قد تجمّع من العبيد ببلاد الصّعيد خمسة (a) عشر ألف فارس، فقلق وبعث بمقدّمي الأتراك إلى المستنصر، فأنكر ما كان من اجتماع العبيد، وجفوا في خطابهم، وفارقوه على غير رضى منهم، فبعثت أمّ المستنصر إلى من بحضرتها من العبيد تأمرهم بالإيقاع على غفلة بالأتراك، فهجموا عليهم وقتلوا منهم عدّة.
فبادر ابن حمدان إلى الخروج ظاهر القاهرة، وتلاحق به الأتراك، وبرز إليهم العبيد المقيمون بالقاهرة ومصر، وحاربوهم عدّة أيام. فحلف ابن حمدان أنّه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل الأمر إمّا له أو عليه. وجدّ كلّ من الفريقين في القتال، فظهرت الأتراك على العبيد، وأثخنوا في قتلهم وأسرهم، فعادوا إلى القاهرة، وتتّبع ابن حمدان من في البلد منهم حتى أفنى معظمهم.
(a) بولاق: نحو خمسة. (١) انظر فيما يلي ٣٩٨ - ٣٩٩. (٢) ابن ميسر: أخبار مصر ٢٤ - ٢٥؛ النويري: نهاية الأرب ٢٢٤: ٢٨ - ٢٢٥؛ المقريزي: اتعاظ الحنفا ٢٦٥: ٢ - ٢٦٧، وإغاثة الأمة بكشف الغمة ٢٤ - ٢٧؛ وانظر أيضا أبا المحاسن: النجوم الزاهرة ١٣: ٥ - ٢٠؛ ابن إياس: بدائع الزهور ٢١٦: ١/ ١ - ٢١٩.