الصّلاة في جامع القسطنطينية، فأذن له في ذلك، فدخل إليه وصلّى فيه صلاة الجمعة، وخطب للخليفة القائم بأمر اللّه العبّاسي (١). فبعث القاضي القضاعي إلى المستنصر يخبره بذلك، فأرسل إلى كنيسة قمامة ببيت المقدس وقبض على جميع ما فيها - وكان شيئا كثيرا - من أموال النّصارى، ففسد من حينئذ ما بين المصريين والرّوم (a) حتى استولوا على بلاد السّاحل كلّها، وحاصروا القاهرة كما يرد في موضعه إن شاء اللّه.
واشتدّ في هذه السّنة الغلاء، وكثر الوباء بمصر والقاهرة وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربع مائة، فحدث مع ذلك الفتنة العظيمة التي خرب بسببها إقليم مصر كلّه. وذلك أنّ المستنصر لمّا خرج على عادته في كلّ سنة على النّجب مع النّساء والحشم إلى أرض الجبّ خارج القاهرة، جرّد بعض الأتراك سيفا وهو سكران على أحد عبيد الشّراء، فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه.
فحنق لقتله الأتراك، وساروا بجميعهم إلى المستنصر وقالوا: إن كان هذا عن رضاك فالسّمع والطّاعة، وإن كان من غير رضى أمير المؤمنين فلا نرضى بذلك. فتبرّأ المستنصر ممّا جرى وأنكره.
فتجمّع الأتراك لمحاربة العبيد، وكانت بينهما حروب شديدة بناحية كوم شريك، قتل فيها عدّة من العبيد، وانهزم من بقي منهم. فشقّ ذلك على أمّ المستنصر، فإنّها كانت السّبب في كثرة العبيد السّود بمصر. وذلك أنّها كانت جارية سوداء فأحبّت الاستكثار من جنسها، واشترتهم من كلّ مكان. وعرفت رغبتها في هذا الجنس، فجلب الناس إلى مصر منهم حتى يقال إنّه صار في مصر إذ ذاك زيادة على خمسين ألف عبد أسود. فلمّا كانت وقعة كوم شريك، أمدّت العبيد بالأموال والسّلاح سرّا.
وكانت أمّ المستنصر قد تحكّمت في الدّولة، وحقدت على الأتراك قتلهم (b) مولاها أبا سعد التّستري، فقوّت (c) العبيد لذلك، حتى صار الواحد منهم يحكم بما يختار،
(a) بولاق: الروم والمصريين. (b) بولاق: وحثت على قتلهم. (c) بولاق: فقويت. (١) عن العلاقة بين الفاطميين والروم البيزنطيين قبل معركة منزكرت التي انتصر فيها السّلاجقة على البيزنطيين سنة ٤٦٣ هـ/ ١٠٧١ م راجع، Hamdani، A.، «Byzantine- Fatimid Relations before the Battle of Manzikert»، Byzantine Studies I/ ٢ (١٩٧٤)، pp. ١٦٩ - ٧٩؛ وعن سفارة القاضي القضاعي إلى القسطنطينية انظر، ابن ميسر: أخبار مصر ١٤؛ المقريزي: اتعاظ الحنفا ٢٣٠: ٢، المقفى الكبير ٧١١: ٥ - ٧١٢؛ ومقال محمد عبد اللّه عنان: «سفارة مصرية إلى بلاط بيزنطة في عهد المستنصر باللّه الفاطمي» في كتاب مصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية، القاهرة ١٩٦٩، ١١٤ - ١٢٠.