وندخل في دين غيره لا نعرفه؛ وأمّا ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا، فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منّا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم فما ترى، فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرّتكم هذه ما تمنّيتم وتنصرفون؛ فقال عبادة وأصحابه: لا.
فقال المقوقس عند ذلك: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثّلاث، فواللّه ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين؛ فقالوا: وأيّ خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذن أخبركم، أمّا دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنّكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثالثة؛ قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا. قال:
نعم تكونون عبيدا مسلّطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تمونوا من آخركم، وتكونوا عبيدا تباعوا وتمزّقوا في البلاد، مستعبدين أبدا أنتم وأهليكم وذراريكم؛ قالوا: فالموت أهون علينا. وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط وبالجزيرة وبالقصر من جمع القبط والرّوم كثير.
فألحّ المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم، وأمكن اللّه منهم، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من أسر، وانجرّت السّفن كلّها إلى الجزيرة، وصار المسلمون يراقبونهم، وقد أحدق بهم الماء من كلّ وجه، لا يقدرون على أن ينفذوا نحو الصّعيد، ولا إلى غير ذلك من المدن والقرى. والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا (a) وأخافه عليكم، ما تنتظرون؟ فو اللّه لتجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعوني من قبل أن تندموا. فلمّا رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية، ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه.
وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: إنّي لم أزل حريصا على إجابتكم إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إليّ بها، فأبى عليّ من حضرني من الرّوم والقبط، فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم، وقد عرفوا نصحي لهم وحبّي صلاحهم، ورجعوا إلى قولي، فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت: أنا في نفر من أصحابي، وأنت في نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنّا عليه.