وأنت إذا تأمّلت اشتقاق أسماء شهور الجاهليّة أوّلا، ثم اشتقاقها ثانيا، تبيّن لك أنّ بين التّسميتين زمانا طويلا، فإنّ صفر في أحدهما هو صميم الحرّ (a) وفي الآخر رمضان، ولا يمكن ذلك في وقت واحد أو وقتين متقاربين.
وكانت العرب أوّلا تستعمل هذه الشّهور على نحو ما يستعمله أهل الإسلام، إمّا بطريق إلهي أو لأنّ العرب لم يكن لها دراية بمراعاة حساب حركات النّيرين، فاحتاجت إلى استعمال مبادي الشّهور لرؤية الأهلّة، وجعلت زمان الشّهر بحسب ما يقع بين كلّ هلالين: فربّما كان بعض الشّهور تامّا، أعني ثلاثين يوما، وربّما كان ناقصا أعني تسعة وعشرين يوما، وربّما كانت أشهر متوالية تامّة أكثرها أربعة وهذا نادر، وربّما كانت أشهر متوالية ناقصة أكثرها ثلاثة.
وكان يقع حجّ العرب في أزمنة السّنة كلّها، وهو أبدا عاشر ذي الحجّة من عهد إبراهيم وإسماعيل ﵉، فإذا انقضى موسم الحجّ تفرّقت العرب طالبة أماكنها، وأقام أهل مكّة بها. فلم يزالوا على ذلك دهرا طويلا إلى أن غيّروا دين إبراهيم وإسماعيل، فأحبّوا أن يتوسّعوا في معيشتهم، ويجعلوا حجّهم في وقت إدراك شغلهم من الأدم والجلود والثّمار ونحوها، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة في أطيب الأزمنة وأخصبها، فتعلّموا كبس الشّهور من اليهود الذين نزلوا يثرب من عهد شمويل نبيّ بني إسرائيل، وعملوا النّسيء قبل الهجرة بنحو مائتي سنة، وكان الذي يلي النّسيء يقال له القلمّس، يعني الشّريف (١).
وقد اختلف في أوّل من أنسأ الشّهور منهم: فقيل القلمّس هو عديّ بن زيد؛ وقيل القلمّس هو سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وأنّه قال: أرى شهور الأهلّة ثلاث مائة وأربعة وخمسين يوما، وأرى شهور العجم ثلاث مائة وخمسة وستين يوما. فبيننا وبينهم أحد عشر يوما، ففي كلّ ثلاث سنين ثلاثة وثلاثون يوما، ففي كلّ ثلاث سنين شهر. وكان إذا جاءت ثلاث سنين قدّم الحجّ في ذي القعدة، فإذا جاءت ثلاث سنين أخّر في المحرّم.
وكانت العرب إذا حجّت قلّدت الإبل النّعال وألبستها الجلال وأشعرتها، فلا يتعرّض لها أحد إلاّ خثعم.
(a) بولاق: الحروب. (١) في لسان العرب لابن منظور (٦٥: ٨) القلمّس: البحر الغزير.