وعدم التزام المقريزي بما جاء في مقدّمته يقف دليلا على أنّه لم ينقّح هذه المقدّمة، كما أنّ مراجعة الكتاب توضّح لنا أنّ المقريزي لم ينقّح فقط مقدّمته بل إنّه لم يعاود النّظر نهائيا في كتابه، فهو لم يمحّص مادّته في كثير من الأحيان بما فيه الكفاية بحيث يبدو كتابه أشبه بمجموعة من المقالات والمواد المتفرّقة في تاريخ مصر وطبوغرافية مدينة القاهرة يختلط فيها التّاريخ بعلم الآثار، أكثر منه مصنّفا متماسكا بحيث لا يمكن أحيانا - كما يقول جست Guest - معرفة ما إذا كان الكتاب مؤلّفا في التّاريخ أم مصنّفا في الطّبوغرافيا أو فنّ الخطط (١).
ولكن ما لا يختلف عليه أحد هو تنوّع وتعدّد المصادر التي اعتمد عليها المقريزي ومعرفته الواسعة بمصادر معلوماته حتى أنّ جانبا كبيرا من المادّة التي حفظها لنا كان في حكم المفقود لولا نقله لها، فأنقذ بذلك من الضّياع جزءا كبيرا من تاريخ مصر كان سيظلّ بدونه مجهولا لنا.
وتعدّ الأجزاء التي وصف فيها المقريزي نظام الخراج وجبي الضّرائب ونظام الإقطاع (فيما يلي ٢١٨ - ٢٤٤)، وجميع الجزء الخاصّ بالفاطميين وتأسيس القاهرة (٣٤٨: ١ - ٤٩٦)، أكثر أجزاء كتاب «المواعظ والاعتبار» قيمة وأصالة. وإلى جانب ذلك يعدّ المقريزي أهمّ مؤرّخ مصري أرّخ للفاطميين، فقد كان يرى أنّ كتابة تاريخ مصر دون وضع الفاطميين في موقعهم الصّحيح في هذا التاريخ غير ممكن، فهم مؤسّسو القاهرة وهم الذين أعطوا لمصر مكانتها الاستراتيجية الهامّة في المنطقة، لذلك فقد شغل حديثه عن الفاطميين وتاريخ القاهرة في زمنهم نحو ربع كتابه (٢).
ومن الغريب أنّ وصف المقريزي لقلعة الجبل العاصمة التي أقام بها الأيّوبيون ثم ورثها عنهم خلفاؤهم سلاطين المماليك سادة مصر في وقته، لا يرقى في قيمته ومصادره إلى الوصف الذي يقدّمه المقريزي للقاهرة في زمن الفاطميين.
وأشار المقريزي في مقدّمة «الخطط» إلى المنهج الذي اعتمد عليه في جمع مادّة كتابه وهو «النّقل» من الكتب المصنّفة في العلوم وهو ما نطلق عليه اليوم المصادر الأدبية، و «الرّواية» عمّن أدرك من مشيخة العلم وجلّة الناس، وأخيرا «المشاهدة» لما عاينه ورآه، أي المعلومات المبنية على اختباره الشّخصي ومشاهداته (٣). وعند كلامه عن أسلوبه التاريخي الذي اتّبعه يقول: «فأمّا النّقل من دواوين العلماء التي صنّفوها في أنواع العلوم فإنّي أعزو كلّ نقل إلى الكتاب الذي نقلته منه
(١) Guest، A.R.، «A list of Writers، books and other authorities mentioned by El-Maqri? zi? in his Khitat» JRAS (١٩٠٢) pp. ١٠٦ - ١٠٧. (٢) Garcin، J. -Cl.، al-Maqri? zi? p. ٢٠٦. (٣) المقريزي: المواعظ والاعتبار فيما يلي ٨.