الهلاك وتفضيل الموت على الرّق والعبوديّة، فقلّما يحكى عن معركة كان القتل فيها أكثر منه في تلك المعركة.
فلمّا نظر دارا إلى أصحابه يتغلّب عليهم ويهزمون، عزم على استعجال الموت في تلك الحرب بالمباشرة لها بنفسه والصّبر حتى يقتل معترضا للقتل، فلطف به بعض قوّاده حتى سلّلوه (a) فانهزم، وذهبت قوّة الفرس وعزّهم، وذلّ بعدها سلطانهم، وصار بلد المشرق كلّه في طاعة الرّوم، وانقطع ملك الفرس مدّة أربع مائة عام وخمسين عاما.
واشتغل الإسكندر بتحصيل ما أصاب في عسكر الفرس والنّظر فيه، وقسمته على عسكره ثلاثين يوما.
ثم مضى إلى مدينة الفرس (١) التي كانت رأس مملكتهم (b)، والتي اجتمعت فيها أموال الدّنيا ونعمها فهدمها ونهب ما فيها، فبلغه عن دارا أنّه صار عند قوم [من اللجدمونيين] (c) مكبّلا في كبول من فضّة، فتهيّأ وخرج في ستة آلاف فوجده بالطّريق مجروحا جراحات كثيرة، فلم يلبث أن هلك منها. فأظهر الإسكندر الحزن عليه والمرثيّة له، وأمر بدفنه في مقابر الملوك من أهل مملكته.
وكان في أمر هذه الثّلاث معارك عبرة لمن اعتبر، ووعظ لمن اتّعظ، إذ قتل فيها من أهل مملكة واحدة نحو من خمسة عشر ألف ألف (d) بين راكب وراجل من أهل بلد آسيا - وهي العراق - وقد كان قتل من أهل تلك المملكة قبل ذلك بنحو من ستين سنة نحو تسعة عشر ألف ألف إلى ألف ألف ما بين راكب وراجل، من أهل بلد العراق والشّام وطرسوس ومصر وجزيرة رودس وجميع البلدان الذين درسهم الإسكندر أجمعين (٢).
وكان سلطان الدّنيا مقسوما بين قوّاده بعد ما زلزل بدواهيه العظيمة العالم كلّه، وعمّ أهله بعضا بالمنايا الفظيعة، وبعضا بالتّوطين عليها والمباشرة لأهوالها. وأوصى عند وفاته أن يلقّب كلّ قائم في اليونانيين بعده ب «بطلميوس» تهويلا للأعداء، لأنّ معناه «الحربي»(٣).
(a) بولاق: سلوه. (b) عند أوروسيوس: التي كانت بيضة الفرس. (c) زيادة من أوروسيوس. (d) صوبه الدكتور بدوي في هامش أوروسيوس إلى: خمسة عشر مائة ألف - أى مليون ونصف - كما في الأصل اللاتيني. Quinquiens (١) هي مدينة Persepolis برسبولس. (٢) أوروسيوس: تاريخ العالم ٢٢٩ - ٢٣٣. (٣) قارن مع المسعودي: مروج الذهب ٣١: ٢.