للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير هذا «المشنا» برأيهم، وعملوا عليه كتابا اسمه «التّلمود» أخفوا فيه كثيرا ممّا كان في ذلك «المشنا»، وزادوا فيه أحكاما من رأيهم (١). وصاروا منذ وضع هذا «التّلمود» الذي كتبوه بأيديهم، وضمّنوه ما هو من رأيهم، ينسبون ما فيه إلى اللّه تعالى، ولذلك ذمّهم اللّه في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ﴾ [الآية ٧٩ سورة البقرة].

وهذا «التّلمود» نسختان مختلفتان في الأحكام. والعمل إلى اليوم على هذا «التّلمود» عند فرقة الرّبّانيين، بخلاف القرّائين فإنّهم لا يعتقدون العمل بما في هذا «التّلمود». فلمّا قدم عانان رأس/ الجالوت إلى العراق، أنكر على اليهود عملهم بهذا التّلمود، وزعم أنّ الذي بيده هو الحقّ لأنّه كتب من النسخ التي كتبت من مشنا موسى الذي بخطّه (٢).

والطائفة الرّبّانيّون ومن وافقهم لا يعوّلون من التّوراة التي بأيديهم إلاّ على ما في هذا «التّلمود»، وما خالف ما في «التّلمود» لا يعبأون به ولا يعوّلون عليه، كما أخبر تعالى، إذ يقول حكاية عنهم:

﴿إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الآية ٢٣ سورة الزخرف].

ومن اطّلع على ما بأيديهم وما عندهم من التّوراة، تبيّن له أنّهم ليسوا على شيء، وأنّهم إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وما تهوى الأنفس. ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبي عوّلوا على رأيه، وعملوا بما في كتاب «الدّلالة» وغيره من كتبه (٣)، وهم على رأيه إلى زمننا.


(١) راجع عن «التّلمود» JEart.TalmudXII، pp. ١ - ٤٠.
(٢) فيما يلي ٩٥٥.
(٣) موسى بن ميمون اليهودي القرطبي Moses Ben Maymoun، نشأ بالأندلس وقرأ بها العلوم، وأكره مع آخرين على الإسلام، فأظهره وأسرّ اليهودية إلى أن أمكنته الفرصة في الرّحلة فخرج عن الأندلس إلى مصر، زمن الفاطميين، ومعه أهله ونزل مدينة الفسطاط بين يهودها، فأظهر دينه وارتزق بالتجارة في الجوهر وما يجري مجراه. وبعد سقوط الدّولة الفاطمية قرّبه القاضي الفاضل وقرّر له رزقا. ولمّا كان ابن ميمون عالما بشرائع اليهود فقد أصبح رئيسا ليهود مصر، وصنّف كتابا في مذهب اليهود سمّاه «الدّلالة» ويعرف أيضا ب «دلالة الحائرين» يستجيده بعض اليهود ويذمّه بعضهم ويسمّيه «الضّلالة». وتوفي ابن ميمون سنة ٦٠٥ هـ/ ١٢٠٨ م، ونقل جثمانه بعد وفاته ودفن بجوار بحيرة طبريّة بناء على وصيّته. (ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ٢٣٩ - ٢٤٠، ٢٤٢؛ القفطي: تاريخ الحكماء ٣١٧ - ٣١٩؛ ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء ١١٧: ٢؛ ابن شاكر: فوات الوفيات ١٧٥: ٤ - ١٧٦). وقد أصبح ابن ميمون رأسا لأسرة يهودية لعبت دورا هامّا في تاريخ اليهود في مصر خاصّة زمن ابنه إبراهام وحفيده داود. (راجع، Vajda، G.، El ٢ art.Ibn Maymun III، pp. ٩٠٠ - ٢; EJ art.
Maimonides Moses XI، pp. ٧٥٤ - ٨١; Arabham Ben Moses II، pp. ١٥٠ - ٥٢؛ ولإسحاق ولفنسون كتاب: موسى بن ميمون، القاهرة ١٩٤٥. وكتابه «دلالة الحائرين» نشره حسين آتاي بعد أن عارضه بأصوله العربية والعبرية وصدر عن كلية الإلهيات بجامعة أنقرة سنة -