فسفر (a) كريب وصاحباه في الصّلح على أمان كتبه مروان لأهل مصر وغيرهم ممّن شرب ماء النيل، وعلى أن يسلّم لابن جحدم من بيت المال عشرة آلاف دينار، وثلاث مائة ثوب بقطرية، ومائة ريطة، وعشرة أفراس، وعشرين بغلا، وخمسين بعيرا. فتمّ الصّلح على ذلك.
ودخل مروان الفسطاط مستهلّ جمادى الأولى سنة خمس وستين، فنزل دار الفلفل، ودفع إلى ابن جحدم جميع ما صالحه عليه، وسار ابن جحدم إلى الحجاز، ولم يلق كلّ واحد منهما الآخر (١).
وتفرّق المصريون، وأخذوا في دفن قتلاهم والبكاء عليهم، فسمع مروان البكاء، فقال: ما هذه النوادب؟ فقيل على القتلى، قال: لا أسمع نائحة تنوح إلاّ أحللت بمن هي في داره العقوبة.
فسكتن عند ذلك.
ودفن أهل مصر قتلاهم فيما بين الخندق والمقطّم، وهي المقابر التي يسمّيها المصريون «مقابر الشّهداء»، ودفن أهل الشّام قتلاهم فيما بين الخندق ومنية الأصبغ (٢). وكان قتلى أهل مصر ما بين الستّ مائة إلى السبع مائة، وقتلى أهل الشّام/ نحوا من الثماني مائة (b).
ولمّا برز مروان من الفسطاط سائرا إلى الشّام، سمع رحبة (c) النساء يندبن قتلاهن، قال:
ويحهن، ما هذا؟ قالوا: النساء على مقابرهن يندبن قتلاهن، فعرج عليهن، فأمر بالانصراف.
قالوا: كذا هنّ كلّ يوم. قال: فامنعوهنّ إلاّ من سبت إلى سبت (d).
وخرج مروان من مصر إلى الشّام لهلال رجب سنة خمس وستين، وكان مقامه بالفسطاط شهرين، واستخلف ابنه عبد العزيز على مصر، وضمّ إليه بشر بن مروان - وكان حدثا - ثم ولّى عبد الملك بشرا بعد ذلك البصرة.
قال: ثم دثر هذا الخندق إلى أيّام خلع الأمين بمصر، وبيعة المأمون، وولى البلد عباد بن محمد ابن حبّان - مولى كندة - من قبل المأمون. فكتب الأمين بمصر إلى أهل الحوفين في القيام ببيعته، وقتال عباد وأهل مصر، فتجمّع أهل الحوف لذلك واستعدّوا.
(a) بولاق: فسعى. (b) بولاق: نحو الثلاث مائة. (c) بولاق: وجبة. (d) بولاق: إلاّ من سبب. (١) الكندي: ولاة مصر ٦٧. (٢) حاشية بخطّ المؤلّف: «منية الأصبغ ظاهر الحسينيّة خارج القاهرة».