الجديد الناصري خارج مدينة مصر، وعلى جماعة كثيرة، وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف، وفرّق بها ستين ألف درهم فضّة، وعاد إلى قلعة الجبل.
فرغب الناس في السّكنى حول هذه الخانقاه وبنوا الدّور والحوانيت والخانات، حتى صارت بلدة كبيرة تعرف ب «خانقاه سرياقوس»، وتزايد الناس بها حتى أنشئ فيها سوى حمّام الخانقاه عدّة حمّامات. وهي إلى اليوم بلدة عامرة، ولا يؤخذ بها مكس ألبتّة ممّا يباع من سائر الأصناف احتراما لمكان الخانقاه، ويعمل هناك في يوم الجمعة سوق عظيم، ترد الناس إليه من الأماكن البعيدة، يباع فيه الخيل والجمال والحمير والبقر والغنم والدّجاج والإوزّ وأصناف الغلاّت وأنواع الثّياب وغير ذلك.
وكانت معاليم هذه الخانكاه من أسنى معلوم بديار مصر: يصرف لكلّ صوفي في اليوم من لحم الضّأن السّليخ رطل قد طبخ في طعم شهيّ، ومن الخبز النقي أربعة أرطال. ويصرف له في كلّ شهر مبلغ أربعين درهما فضّة: عنها ديناران، ورطل حلوى، ورطلان زيتا من زيت الزّيتون، ومثل ذلك من الصّابون. ويصرف له ثمن كسوة في كلّ سنة، وتوسعة في كلّ شهر رمضان وفي العيدين وفي مواسم رجب وشعبان وعاشوراء وكلّما قدمت فاكهة يصرف له مبلغ لشرائها.
وبالخانقاه خزانة بها السّكّر والأشربة والأدوية، وبها الطبائعي والجرائحي والكحّال ومصلح الشّعر. وفي كلّ رمضان يفرّق/ على الصّوفية كيزان لشرب الماء، وتبيّض لهم قدورهم النحاس، ويعطون حتى الأشنان لغسل الأيدي من وضر اللحم، يصرف ذلك من الوقف لكلّ منهم.
وبالحمّام الحلاّق لتدليك أبدانهم وحلق رءوسهم. فكان المنقطع بها لا يحتاج إلى شيء غيرها، ويتفرّغ للعبادة، ثم استجدّ بعد سنة تسعين وسبع مائة بها حمّام أخرى برسم النساء.
وما برحت على ما ذكرنا، إلى أن كانت المحن من سنة ستّ وثمان مائة، فبطل الطعام، وصار يصرف لهم في ثمنه مبلغ من نقد مصر، وهي الآن على ذلك. وأدركت من صوفيتها شخصا شيخا، يعرف بأبي طاهر، ينام أربعين يوما بلياليها لا يستيقظ فيها ألبتّة، ثم يستيقظ أربعين يوما لا ينام في ليلها ولا نهارها، أقام على ذلك عدّة أعوام، وخبره مشهور عند أهل الخانقاه، وأخبرني أنّه لم يكن في النوم إلاّ كغيره من الناس، ثم كثر نومه حتى بلغ ما تقدّم ذكره، ومات بهذه الخانقاه في نحو سنة ثمان مائة.
وممّا قيل في الخانقاه وما أنشأه السّلطان بها:
[الرجز]
سر نحو سرياقوس وانزل بفنا … أرجائها ياذا النهى والرّشد