وقام ابن غراب بتولية عبد العزيز بن برقوق، وأجلسه على تخت الملك عشاء، ولقّبه ب «الملك المنصور»، ودبّر الدّولة كما أحبّ مدّة سبعين يوما، إلى أن أحسّ من الأمراء بتغيّر، فأخرج الناصر ليلا، وجمع عليه عدّة من الأمراء والمماليك، وركب معه بلأمة الحرب إلى القلعة. فلم يلبث أصحاب المنصور وانهزموا، ودخل الناصر إلى القلعة واستولى على المملكة ثانيا، فألقى مقاليد الدّولة إلى ابن غراب وفوّض إليه ما وراء سريره، ونظمه في خاصّته وجعله من أكابر الأمراء، وناط به جميع الأمور (١).
فأصبح مولى نعمة كلّ من السّلطان والأمراء، يمنّ عليهم بأنّه أبقى لهم مهجهم، وأعاد إليهم سائر ما كانوا قد سلبوه من ملكهم، وأمدّهم بماله وقت حاجتهم وفاقتهم إليه، ويفخر ويتكثّر بأنّه أقام دولة وأزال دولة، ثم أزال ما أقام وأقام ما أزال، من غير حاجة ولا ضرورة ألجأته إلى شيء من ذلك، وأنّه لو شاء أخذ الملك لنفسه.
وترك كتابة السّرّ لغلامه وأحد كتّابه فخر الدّين بن المزوّق، ترفّعا عنها واحتقارا لها، ولبس هيئة الأمراء - وهي الكلّوتة والقباء - وشدّ السّيف في وسطه، وتحوّل من داره التي على بركة الفيل إلى دار بعض الأمراء بحدرة البقر. فغاضبه القضاة، وكان عند الانتهاء الانحطاط.
ونزل به مرض الموت، فنال في مرضه من السّعادة ما لم يسمع بمثله لأحد من أبناء جنسه، وصار الأمير يشبك ومن دونه من الأمراء يتردّدون إليه، وأكثرهم إذا دخل عليه وقف قائما على قدميه حتى ينصرف، إلى أن مات يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان وثمان مائة، ولم يبلغ ثلاثين سنة.
وكانت جنازته أحد الأمور العجيبة بمصر، لكثرة من شهدها من الأمراء والأعيان وسائر أرباب الوظائف، بحيث استأجر الناس السّقائف والحوانيت لمشاهدتها، ونزل السّلطان للصّلاة عليه وصعد إلى القلعة، فدفن خارج باب المحروق (٢).
وكان من أحسن الناس شكلا، وأحلاهم منظرا، وأكرمهم يدا، مع تديّن وتعفّف عن القاذورات، وبسط يد بالصّدقات، إلاّ أنّه كان غدّارا، لا يتوانى عن طلب عدوّه، ولا يرضى
(١) فيما تقدم ٧٨٢: ٣. (٢) لا يعرف على وجه التّدقيق الموضع الذي دفن فيه القاضي سعد الدّين بن غراب خارج باب المحروق؛ ولكن توجد بقرافة المماليك بجوار تربة منكلي بغا الفخري ومدرسة قايتباي ومقعده قبّة تنسب خطأ إلى القاضي سعد الدّين ابن غراب أنشئت في أغلب الظّنّ سنة ٧٥٣ هـ/ ١٣٥٢ م ولم يعرف منشؤها. (عاصم محمد رزق: أطلس العمارة الإسلامية ١٨٥: ٣ - ١٩٤).