للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

- ثم خرّب دنيسر (a) وعاد إلى دمشق، وسار منها إلى القاهرة، فدخلها في سنة أربع وثلاثين.

ثم خرج في سنة خمس وثلاثين، ونزل على دمشق وقد امتنعت عليه، فضايقها حتى أخذها من أخيه الملك الصّالح إسماعيل، وعوّضه عنها بعلبك وبصرى وغيرها في تاسع عشر جمادى الأولى، ونزل بالقلعة، وشرع (b) يتجهّز لأخذ حلب. وقد حدث (c) به زكام، فدخل في ابتدائه الحمّام، فاندفعت الموادّ إلى معدته فتورّم، وثارت به حمّى، فنهاه الأطبّاء عن القيء، وحذّروه منه، فلم يصبر وتقيّأ، فمات لوقته في آخر نهار الأربعاء حادي عشرين رجب سنة خمس وثلاثين وستّ مائة عن ستين سنة. منها ملكه أرض مصر نحو أربعين سنة، استبدّ فيها بعد موت أبيه مدّة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما.

وكان يحبّ العلم وأهله، ويؤثر مجالستهم، وشغف بسماع الحديث النبوي وحدّث، وبنى دار الحديث الكامليّة بالقاهرة. وكان يناظر العلماء ويمتحنهم بمسائل غريبة من فقه ونحو، فمن أجاب عنها حظي عنده. وكان يبيت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم، على أسرّة بجانب سريره ليسامروه. وكان للأدب والعلم (d) عنده نفاق، فقصده الناس لذلك، وصار يطلق الأرزاق الدّارّة لمن يقصده لهذا.

وكان مهابا حازما، سديد الرأي، حسن التّدبير، عفيفا عن الدّماء. وكان يباشر أمور مملكته بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره، ولم يستوزر بعد الصّاحب صفيّ الدّين عبد اللّه ابن عليّ بن شكر أحدا، وإنّما كان ينتدب من يختاره لتدبير الأشغال، ويحضر عنده الدّواوين، ويحاسبهم بنفسه.

وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج، وكشف الجسور، ورتّب الأمراء لعملها. فإذا انتهى عمل الجسور خرج ثانيا/ وتفقّدها (e)، فإن وقف فيها على خلل عاقب متولّيها أشد العقوبة. فعمرت أرض مصر في أيّامه عمارة جيّدة.

وكان يخرج من زكوات الأموال التي تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين، ويعيّن مصرف ذلك لمستحقّيه شرعا، ويقرّر (f) منه معاليم الفقهاء والصّلحاء. وكان يجلس كلّ ليلة جمعة مجلسا لأهل العلم، فيجتمعون عنده للمناظرة. وكان كثير السّياسة حسن المداراة،


(a) بولاق: ثم خرج إلى دنيسر.
(b) بولاق: أخذ.
(c) بولاق: نزل.
(d) بولاق: للعلم والأدب.
(e) بولاق: تفقدها بنفسه.
(f) بولاق: ويفرز.