وادّعوا أنّ الإجماع قائم على ذلك، وقاموا على المناوي في ذلك قومة عظيمة، فقال: نحن نحكم بالظّاهر. فقالوا له: ما لم يظهر الباطن بخلافه. فقال: قال النّبيّ ﷺ: «نحن نحكم بالظّاهر». قالوا: هذا الحديث كذب على النّبيّ ﷺ، وإنّما الحديث الصّحيح حديث «إنّما أنا بشر، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض … » الحديث.
/ قال المناوي: الأحكام ما هي بالفتاوى. قالوا له: فبماذا تكون؟ أفي الوجود حكم شرعيّ بغير فتوى من اللّه ورسوله؟
وكان قد قال في مجلس ابن الدّريهم القائم على نفيس اليهودي - المدعو برأس الجالوت (١) بين اليهود - لا يلتفت لقول المفتين. فقيل له في هذا المجلس: ها أنت قد قلت مرّتين: إنّ المفتين لا يعتبر قولهم، وأنّ الفتاوى لا يعتدّ بها. وقد أخطأت في ذلك أشدّ الخطأ، وأنبأت عن غاية الجهل، فإنّ منصب الفتوى أوّل من قام به ربّ العالمين، إذ قال في كتابه المبين: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ﴾ [الآية ١٧٦ سورة النساء]، وقال يوسف ﵇: ﴿قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ [الآية ٤١ سورة يوسف]، وقال النّبيّ ﷺ لعائشة ﵂:«قد أفتاني اللّه ربّي فيما استفتيته».
وكلّ حكم جاء على سؤال سائل تكفّل ببيانه قرآن أو سنّة فهو فتوى، والقائم به مفت، فكيف تقول: لا يلتفت إلى الفتوى أو إلى المفتين؟ فقال سراج الدّين الهندي وغيره: هذا كفر، ومذهب أبي حنيفة أنّ من استخفّ بالفتوى أو المفتين فهو كافر.
فاستدرك نفسه بعد ذلك وقال: لم أرد إلاّ أنّ الفتوى إذا خالفت المذهب فهي باطلة. قالوا له: وأخطأت في ذلك أيضا، لأنّ الفتوى قد تخالف المذهب المعيّن، ولا تخالف الحقّ في نفس الأمر. قال: فأردت بالفتوى التي تخالف الحقّ. قالوا: فأطلقت في موضع التّقييد، وذلك خطأ. فقال السّلطان حينئذ: فإذا قدّر هذا، وادّعيت أنّ الفتوى لا أثر لها، فنبطل المفتين والفتوى من الوجود. فتلكّأ وحار وقال: كيف أعمل في هذا؟ فتبيّن لبعض الحاضرين أنّه استشكل المسألة، ولم يتبيّن له وجهها، فقال: لا شكّ أنّ مولانا السّلطان لم ينكر صدور الوقف، وإنّما أنكر المصارف، وأن تكون الجهة التي عيّنها هي هرماس وشهوده وقضاته،
(١) عن وظيفة رأس الجالوت Head of the Disspora، أي رئيس يهود المنفى، راجع، Cohen، M.R.، Jewish Self-Government in Medieval Egypt.The Origins of the Office of Head of the Jews، Ca.L ٢ ١٠٦٥ - ١١٢٦، Princeton N.J. ١٩٨٠.