للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعالى عليه - من أنّ للواقف أن يشترط في وقفه التّغيير والزّيادة والنّقص وغير ذلك - فأحضر الكركي الموقّع إليه الكتاب مطويّا، فقرأ منه طرّته وخطبته وأوّله، ثم طواه وأعاده إليه مطويّا، وقال: اشهدوا بما فيه - دون قراءة وتأمّل - فشهدوا هم بالتّفصيل الذي كتبوه وقرّروه مع الهرماس.

ولمّا اطّلع السّلطان على ذلك بعد نفي الهرماس، طلب الكركي وسأله عن هذه الواقعة.

فأجاب بما قد ذكرنا، واللّه أعلم بصحّة ذلك، غير أنّ المعلوم المقرّر أنّ السّلطان ما قصد إلاّ مصالح الجامع، نعم سأله أزدمر الخازندار: هل وقفت حصّة لطيفة على أولاد الهرماس، فإنّه قد ذكر ذلك؟ فقال: نعم، أنا وقفت عليهم جزءا يسيرا لم أعلم مقداره. وأمّا التّفصيل المذكور في كتاب الوقف فلم أتحقّقه ولم أطّلع عليه.

فاستفتى المفتين في هذه الواقعة. فأمّا المفتون - كابن عقيل، وابن السّبكي، والبلقيني والبسطامي، والهندي، وابن شيخ الجبل، والبغدادي ونحوهم - فأجابوا ببطلان الحكم المترتّب على هذه الشّهادة الباطلة وبطلان التّنفيذ، وكان الحنفيّ حكم والبقيّة نفّذوا. وأمّا الحنفيّ فقال:

إنّ الوقف إذا صدر صحيحا على الأوضاع الشّرعية، فإنّه لا يبطل بما قاله الشّاهد، وهو جواب عن نفس الواقعة. وأمّا الشّافعيّ فكتب ما مضمونه: إنّ الحنفيّ إن اقتضى مذهبه بطلان ما صحّحه أوّلا، نفذ بطلانه، وحاصل ذلك أنّ القضاة أجابوا بالصّحّة، والمفتين أجابوا بالبطلان.

فطلب السّلطان المفتين والقضاة. فلم يحضر من الحكّام غير نائب الشّافعي، وهو تاج الدّين محمد بن إسحاق بن المناوي، والقضاة الثلاثة الشّافعيّ والحنفيّ والحنبليّ وجدوا مرضى لم يمكنهم الحضور إلى سرياقوس - فإنّ السّلطان كان قد سرح إليها على العادة في كلّ سنة - فجمعهم السّلطان في برج من القصر الذي بميدان سرياقوس عشاء الآخرة، وذكر لهم القضيّة، وسألهم عن حكم اللّه تعالى في الواقعة. فأجاب الجميع بالبطلان غير المناوي، فإنّه قال: مذهب أبي حنيفة أنّ الشّهادة الباطلة إذا اتّصل بها الحكم صحّ ولزم. فصرخت عليه المفتون شافعيهم وحنفيهم، أمّا شافعيهم فإنّه قال: ليس هذا مذهبك ولا مذهب الجمهور، ولا هو الرّاجح في الدّليل والنّظر. وقال له ابن عقيل: هذا ممّا ينقض به الحكم لو حكم به حاكم، وادّعى قيام الإجماع على ذلك. وقال له سراج الدّين البلقيني: ليس هذا مذهب أبي حنيفة، ومذهبه في العقود والفسوخ ما ذكرت من أنّ حكم الحاكم يكون هو المعتمد في التّحليل والتّحريم. وأمّا الأوقاف ونحوها فحكم الحاكم فيها لا أثر له كمذهب الشّافعيّ.