فرتّب في تدريس الشّافعيّة قاضي القضاة بدر الدّين محمد بن جماعة الشّافعيّ، وفي تدريس الحنفيّة قاضي القضاة شمس الدّين أحمد السّروجي الحنفي، وفي تدريس المالكيّة قاضي القضاة زين الدّين عليّ بن مخلوف المالكي، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدّين الحرّاني (a)، وفي درس الحديث الشّيخ سعد الدّين مسعودا الحارثي، وفي درس النّحو الشّيخ أثير الدّين أبا حيّان، وفي درس القراءات السّبع الشّيخ نور الدّين الشّطنوفي، وفي التّصدير لإفادة العلوم علاء الدّين عليّ بن إسماعيل القونويّ، وفي مشيخة الميعاد المجد عيسى بن الخشّاب.
وعمل فيه خزانة كتب جليلة، وجعل فيه عدّة متصدّرين لتلقين القرآن الكريم، وعدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن، ومعلّما يقرئ أيتام المسلمين كتاب اللّه ﷿. وحفر فيه صهريجا بصحن الجامع ليملأ في كلّ سنة من ماء النّيل، ويسبّل منه الماء في كلّ يوم، ويستقي منه النّاس يوم الجمعة، وأجرى على جميع من قرّره فيه معاليم دارّة. وهذه الأوقاف باقية إلى اليوم، إلاّ أنّ أحوالها اختلّت كما اختلّ غيرها. فكان ما أنفق عليه زيادة على أربعين ألف دينار.
وجرى في بنائه لهذا الجامع أمر يتعجّب منه، وهو ما حدّثني فيه شيخنا الشّيخ المعروف المسند المعمّر، أبو عبد اللّه محمد بن ضرغام بن شكر المقرئ بمكّة في سنة سبع وثمانين وسبع مائة (١)، قال: أخبرني من حضر عمارة الأمير بيبرس للجامع الحاكمي عند سقوطه في سنة الزّلزلة، أنّه لمّا شرع البناة في ترميم ما وهى من المئذنة التي هي من جهة باب الفتوح، ظهر لهم صندوق في تضاعيف البنيان. فأخرجه الموكّل بالعمارة وفتحه، فإذا فيه قطن ملفوف على كفّ إنسان بزنده، وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي، والكفّ طريّة كأنّها قريبة عهد بالقطع. ثم رأيت هذه الحكاية بخطّ مؤلّف «السّيرة النّاصريّة» موسى بن محمد بن يحيى أحد مقدّمي الحلقة (٢).
ثم جدّد هذا الجامع، وبلّط جميعه في أيّام الملك النّاصر حسن بن محمد بن قلاوون في ولايته الثانية، على يد الشّيخ/ قطب الدّين محمد الهرماس في سنة ستين وسبع مائة (٣). ووقف قطعة
(a) بولاق: الجوّاني. (١) لم يترجم له المقريزي في درر العقود الفريدة. (٢) عنوان هذه السيرة «نزهة النّاظر في سيرة الملك النّاصر» لموسى بن محمد بن يحيى اليوسفي، والموجود من هذه السيرة يبدأ بحوادث سنة ٧٣٣ هـ (انظر فيما تقدم ٧٢: ٣ *). (٣) انظر خبر الهرماس فيما تقدم ٢٥٢: ٣ - ٢٥٣.