وبلغ النّصرانيّ الذي تولّى له بناء العين - وكان قد غضب عليه وضربه ورماه في المطبق - الخبر. فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحبّ وتختار بلا عمد إلاّ عمودي القبلة. فأحضره، وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: ويحك، ما تقول في بناء الجامع! فقال: أنا أصوّره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلاّ عمودي القبلة (١). فأمر بأن تحضر له الجلود، فأحضرت، وصوّره له، فأعجبه واستحسنه، وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنّفقة عليه مائة ألف دينار، فقال له: أنفق وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك.
فوضع النّصرانيّ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه ويعمل الجير، ويبني إلى أن فرغ من جميعه، وبيّضه وخلّقه، وفرش فيه الحصر، وعلّق فيه القناديل بالسّلاسل الحسان الطّوال، وحمل إليه صناديق المصاحف، وقفل (a) إليه القرّاء والفقهاء، وصلّى فيه بكّار بن قتيبة القاضي، وعمل الرّبيع بن سليمان بابا فيما روى عن النّبيّ ﷺ أنّه قال:
«من بنى للّه مسجدا، ولو كمثل مفحص (b) قطاة، بنى اللّه له بيتا في الجنّة».
فلمّا كان في أوّل جمعة صلاّها أحمد بن طولون فيه، وفرغت الصّلاة،/ جلس محمد ابن الرّبيع خارج المقصورة، وقام المستملي وفتح باب المقصورة، وجلس أحمد بن طولون ولم ينصرف، والغلمان قيام وسائر الحجّاب، حتى فرغ المجلس. فلمّا فرغ المجلس، خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار، وقال: يقول لك الأمير: نفعك اللّه بما علّمك، وهذه لأبي طاهر، يعني ابنه. وتصدّق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين؛ وكان يوما عظيما حسنا.
وراح أحمد بن طولون، ونزل في الدّار التي عملها فيه للإمارة - وقد فرشت وعلّقت، وحملت إليها الآلات والأواني وصناديق الأشربة وما شاكلها - فنزل بها أحمد وجدّد طهره وغيّر ثيابه، وخرج من بابها إلى المقصورة، فركع وسجد شكرا للّه تعالى على ما أعانه عليه من ذلك ويسّره له. فلمّا أراد الانصراف، خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوّارة، وخرج إلى باب الرّيح. فصعد النّصرانيّ الذي بنى الجامع المنارة (c)، ووقف إلى جانب المركب النّحاس وصاح:
(a) بولاق: ونقل. (b) بولاق: كمفحص. (c) إضافة من المسودة. (١) وفيما يلي ٨٩٤.