للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم يدخل فصل الشّتاء وطبيعته باردة رطبة، من النّصف الآخير من هاتور ثم كيهك وطوبة، وذلك عندما تكون الشّمس في القوس والجدي وبعض الدّلو، وذلك أقلّ من ثلاثة أشهر، والعلّة في ذلك قوّة حرارة أرض مصر، وكون الأبدان مضطربة. وتنكشف الأرض في أوّل هذا الفصل، وتحرث وتعفّن بالجملة، لكثرة ما يلقى فيها من البزور، وما فيها من أزبال الحيوان وفضولها، ولأنّها سخيفة، وهي كالحمأة في هذا الزّمان، فيتولّد فيها من أنواع الفأر والدّود والنّبات والعشب وغير ذلك ما لا يحصى كثرة، وينحلّ منها في الجوّ أبخرة كثيرة، حتى يصير الضّباب بالغدوات ساترا للأبصار عن الألوان القريبة.

ويصاد أيضا من الأسماك المحبوسة في المياه المخزونة شيء كثير، وقد داخلها العفن لقلّة حركتها، فيولّد أكلها في الأبدان فضولا كثيرة لزجة شديدة الاستعداد للعفن، فتقوى الأمراض في أوّل هذا الفصل. حتى إذا اشتدّ البرد، وقوي الهضم في الأبدان، واستقرّ الهواء على شيء واحد، وعادت الحرارة الغريزية إلى داخل، وتطبّقت الأرض بالنّبات، وسكنت عفونتها، صحّت عند ذلك الأبدان، وهذا يكون في آخر كيهك أو في طوبة.

فقد استبان أنّ الفصول بأرض مصر كثيرة الاختلاف، وأنّ أردأ أوقات السّنة عندهم وأكثرها أمراضا، هي (a) الخريف وأوّل الشّتاء، وذلك في شهري هاتور وكيهك، فإذا اختلاف الفصول مشاكل لما عليه أرضهم من الرّداءة، فمضرّة الفصول إذا بالأبدان في أرض مصر أقلّ منها في البلدان الأخر إذا اختلفت هذا الاختلاف.

واستبان أيضا أنّ السّبب الأوّل في ذلك، هو مدّ النّيل في أيّام الصّيف، وتطبيقه الأرض في أيّام الخريف، بخلاف ما عليه مياه الأنهار في العمارة كلّها، فإنّها إنّما تمتدّ في أخصّ الأوقات بالرّطوبة، وهو الشّتاء والرّبيع (١).

قال: وقد استبان ممّا تقدّم أنّ الرّطوبة الفضليّة بأرض مصر كثيرة. وظاهر أنّ أمراضهم البلديّة تكون من نوع هذه الرّطوبة، فإنّي أنا قلّما رأيت أمراضهم البلديّة تكون نوع هذه كلّها، لا يشوبها في أوّل أمرها البلغم والخلط الخام، والأمراض كلّها تحدث عندهم في الأوقات كلّها كما


(a) بولاق: هو.
(١) ابن رضوان: دفع مضار الأبدان ١٣٥ - ١٤٢.