وكما شاركت المدارس المساجد الجامعة في إقامة الجمع، فإنّ الجوامع استمرّت أيضا في عقد مجالس العلم والتّدريس، وعلى الأخصّ الجامع الأزهر، وجامع الحاكم، وجامع ابن طولون، وجامع عمرو. ف «الجامع الأزهر»، رغم انقطاع الخطبة منه طوال العصر الأيّوبي، لم يفقد أبدا مكانته باعتباره جامع المدينة. وعند ما جدّد المنصور لاجين جامع ابن طولون، سنة ٦٩٦ هـ/ ١٢٩٧ م، «رتّب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة … ودرسا يلقى فيه تفسير القرآن الكريم، ودرسا لحديث النّبي ﷺ، ودرسا للطّبّ»(فيما يلي ٦٩). وفعل الشيء نفسه الأمير ركن الدّين بيبرس الجاشنكير عند ما انتدب لإصلاح «جامع الحاكم» في أعقاب زلزال سنة ٧٠٢ هـ/ ١٣٠٢ م، «فرتّب فيه دروسا أربعة لإقراء الفقه على مذاهب الأئمّة الأربعة ودرسا لإقراء الحديث النّبوي، وجعل لكلّ درس مدرّسا وعدّة من الطّلبة»(فيما يلي ١١٤). كذلك فقد قام الأمير يلبغا العمري الخاصّكي بتجديد درس بجامع ابن طولون، سنة ٧٦٧ هـ/ ١٣٦٥ م، فيه سبعة مدرّسين للحنفيّة، وقرّر لكلّ فقيه من الطّلبة في الشهر أربعين درهما وأردبّ قمح، الأمر الذي أدّى إلى انتقال جماعة من الشّافعية إلى مذهب الحنفيّة» (فيما يلي ٧٩). وبلغت حلقات العلم في «جامع عمرو»، في أواسط القرن الثّامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي «بضعا وأربعين حلقة لإقراء العلم لا تكاد تبرح عنه»(فيما يلي ٣٧).
وبذلك أصبحت بعض المساجد الجامعة مراكز تعليمية مهمّة تعادل أيّة مدرسة مملوكية أخرى.
فقد ظلّت هذه الجوامع مراكز التّعليم في مصر قرونا قبل ظهور المدرسة، حيث كان الجامع هو المكان العامّ الوحيد للتّعليم، وكان العلماء يدرّسون فيه سواء بمقابل أو بدون مقابل، واستمرّ كذلك خلال القرنين السّادس والسّابع للهجرة/ الثاني عشر والثالث عشر للميلاد عند ما بدأت «المدرسة» تستقرّ في العاصمة المصرية.
ولم يكن من الممكن لوظيفة المدرسة أن تستمرّ دون الاعتماد على نظام «الوقف» أو «الأحباس»، فكان ريع الأوقاف هو المصدر المالي الرّئيس للصّرف على وظيفة المدرسة من رواتب للفقهاء والشّيوخ ومعاليم للطّلبة. إضافة إلى ما يقدّم من أشياء عينيّة تعين على إعاشة الطّلبة وشيوخهم، وبالتالي فإنّ النّشاط التّعليمي الواسع الذي عرفته مدارس القاهرة والأقاليم في العصر المملوكي هو في الحقيقة نتاج طبيعيّ لازدهار الأوقاف وانتشارها في هذا العصر (١).
(١) ابن خلدون: المقدمة ١٠٢٥: ٣، التعريف ٢٧٩؛ محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر ٢٤٢.