وملك بعدها «السّلطان الملك المعزّ عزّ الدّين أيبك الجاشنكير التّركماني الصّالحي» أحد المماليك الأتراك البحريّة (١). وكان قد انتقل إلى الملك الصّالح من أولاد ابن التّركماني، فعرف بالتّركماني، ورقّاه في خدمه حتى صار من جملة الأمراء، ورتّبه جاشنكير. فلمّا مات الصّالح وقدّمته البحريّة عليهم في سلطنة شجر الدّرّ، كتب إليهم الخليفة المستعصم من بغداد يذمّهم على إقامة امرأة، ووافق مع ذلك أخذ النّاصر لدمشق وحركتهم لمحاربته. فوقع الاتّفاق على إقامة أيبك في السّلطنة، فأركبوه بشعار السّلطنة في يوم السبت آخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستّ مائة، ولقّبوه ب «الملك المعزّ»، وجلس على تخت الملك بقلعة الجبل. فورد الخبر من الغد بأخذ الملك المغيث عمر بن العادل الصّغير الكرك والشّوبك، وأخذ الملك السّعيد قلعة الصّبيبة.
فاجتمع رأي الأمراء على إقامة الأشرف مظفّر الدّين موسى بن النّاصر - ويقال المسعود يوسف ابن الملك المسعود يوسف، ويقال أطسز، ويقال أيضا أقسيس ابن الملك الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيّوب - شريكا للمعزّ في السّلطنة، فأقاموه معه - وعمره نحو ستّ سنين - في خامس جمادى الأولى، وصارت المراسيم تبرز عن الملكين. إلاّ أنّ الأمر والنّهي للمعزّ، وليس للأشرف سوى مجرّد الاسم (٢).
وولّى المعزّ الوزارة لشرف الدّين أبي سعيد هبة اللّه بن صاعد الفائزي - وهو أوّل قبطي ولي وزارة مصر (٣) - وخرج المعزّ بالعساكر وعربان مصر لمحاربة النّاصر يوسف في ثالث ذي القعدة، وخيّم بمنزلة الصّالحيّة وترك الأشرف بقلعة الجبل، واقتتل مع النّاصر في عاشره. فكانت النّصرة له على النّاصر، وعاد في ثاني عشره.
فنزل بالنّاس من البحريّة بلاء لا يوصف، ما بين قتل ونهب وسبي، بحيث لو ملك الفرنج بلاد مصر ما زادوا في الفساد على ما فعله البحريّة. وكان كبراؤهم ثلاثة: الأمير
(١) راجع أخباره عند، ابن أيبك: كنز الدرر ١٢: ٨ - ٣٢؛ النويري: نهاية الأرب ٤١٩: ٢٩ - ٤٥٩؛ بيبرس الدوادار: زبدة الفكرة ٦، ٧، ٢٤؛ المقريزي: السلوك ٣٦٨: ١ - ٤٠٤؛ العيني: عقد الجمان ٣٤: ١ - ١٤٠؛ أبي المحاسن: النجوم الزاهرة ٣: ٧ - ٤٠، المنهل الصافي ٢٠: ١ - ٢٨؛ Levanoni، A.، «The Consolidation of Aybak's Rule: An Exemple of Factionalism inL ٢ the Mamluk State»، Der Islam ٧١ (١٩٩٤)، pp. ٢٤١ - ٥٤. (٢) انظر، العيني: عقد الجمان ٣٩: ١ - ٤٤. (٣) انظر ترجمة الوزير هبة اللّه بن صاعد الفائزي، فيما تقدم ٢٩٧ - ٢٩٨.