للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فبنت جدارا أحاطت به على جميع أرض مصر كلّها: المزارع، والمدائن، والقرى. وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والتّرع. وجعلت فيه محارس ومسالح على كلّ ثلاثة أميال محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كلّ ميل، وجعلت في كل محرس رجالا، وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم آت يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض الأجراس فأتاهم الخبر من أيّ وجه كان في ساعة واحدة فنظروا في ذلك فمنعت بذلك مصر ممن أرادها. وفرغت من بنائه في ستة أشهر. وهو الجدار الذي يقال له «جدار العجوز» بمصر، وقد بقيت بالصّعيد منه بقايا كثيرة (١).

قال المسعودي: وقيل: إنّما بنته خوفا على ولدها، وكان كثير القنص، فخافت عليه سباع البرّ والبحر واغتيال من جاور أرضهم من الملوك والبوادي، فحوّطت الحائط من التماسيح وغيرها.

وقد قيل [في ذلك من الوجوه] (a) غير ما وصفنا؛ فملكتهم ثلاثين سنة في قول (٢).

قال كاتبه (b): قد بقي من حائط العجوز هذا في بلاد الصّعيد بقايا، أخبرني الشّيخ المعمّر محمد بن السّعوديّ أنّه سار في بلاد الصّعيد على حائط العجوز ومعه رفقة، فاقتلع أحدهم منها لبنة، فإذا هي كبيرة جدّا تخالف المعهود الآن من اللّبن في المقدار. فتناولها القوم واحدا بعد واحد يتأمّلونها، وبينما هم في رؤتيها إذ سقطت إلى الأرض، فانقلقت عن حبّة فول في غاية الكبر الذي يتعجّب منه لعدم مثله في زماننا، فقشّروا ما عليها فوجدوها سالمة من السّوس والعيب، كأنّها قريبة عهد بحصادها، لم يتغيّر فيها شيء ألبتّة؛ فأكلها الجماعة قطعة قطعة، وكأنّها إنما خبّئت لهم من الزّمن القديم والأعصر الخالية؛ إنّه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها.

قال ابن عبد الحكم: وكان ثمّ عجوز ساحرة يقال لها: تدورة (c)، وكانت السّحرة تعظّمها وتقدّمها في علمهم وسحرهم، فبعثت إليها دلوكة ابنة زبّاء: إنّا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا إليك، ولا نأمن أن يطمع فينا الملوك، فاعملي لنا شيئا نغلب به من حولنا، فقد كان فرعون يحتاج إليك، فكيف وقد ذهب أكابرنا - يعني في الغرق مع فرعون موسى - وبقي أقلّنا.


(a) إضافة من المسعودي.
(b) بولاق: المؤلف، وعلى هامش الأصل: في الأصل كاتبه.
(c) بولاق: بدور.
(١) ابن عبد الحكم: فتوح مصر ٢٦: ١ - ٢٧ وفيما يلي ٥٤١.
(٢) المسعودي: مروج الذهب ٨٧: ٢.