«والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا أوّل الأمر مهرة في ثقافته وركوبه. والرّوم والفرنجة لممارستهم أحواله، ومرباهم في التقلّب على أعواده - مرنوا عليه وأحكموا الذّربة (a) بثقافته.
فلمّا استقرّ الملك للعرب، وشمخ سلطانهم، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم، وتقرّب كلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النّواتيّة في حاجاتهم البحرية أمما، وتكرّرت ممارستهم للبحر وثقافته، استحدثوا بصراء بها. فتاقت أنفسهم (b) إلى الجهاد فيه، وأنشأوا السّفن والشّواني، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسّلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفّته، مثل الشّام وإفريقيّة والمغرب والأندلس» (c) (١).
وأوّل ما أنشئ الأسطول بمصر في خلافة أمير المؤمنين المتوكّل على اللّه أبي الفضل جعفر بن المعتصم، عندما نزل الرّوم دمياط في يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين ومائتين - وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق -/ فملكوها، وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النّساء والأطفال، ومضوا إلى تنّيس فأقاموا بأشتومها (٢). فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول، وصار من أهم ما يعمل بمصر، وأنشئت الشّواني برسم الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البرّ، وانتدب الأمراء له الرّماة (٣).
فاجتهد النّاس بمصر في تعليم أولادهم الرّماية وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القوّاد العارفون بمحاربة العدوّ. وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب.
هذا وللنّاس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء اللّه وإقامة دينه، لا جرم أنّه كان لخدّام الأسطول حرمة ومكانة، ولكلّ أحد من النّاس رغبة في أنّه يعدّ من جملتهم، فيسعى بالوسائل حتى يستقرّ فيه.
وكان من غزو الأسطول بلاد العدوّ ما قد شحنت به كتب التّواريخ. فكانت الحرب بين المسلمين والرّوم سجالا: ينال المسلمون من العدوّ وينال العدوّ منهم، ويأسر بعضهم بعضا لكثرة
(a) مقدمة ابن خلدون: الدراية. (b) مقدمة ابن خلدون: فشرهوا. (c) هنا على هامش آياصوفيا: بياض اثنا عشر سطرا. (١) ابن خلدون: المقدمة ٦٩٠. (٢) انظر فيما تقدم ٥٢٨: ١ وما ذكر من مراجع. (٣) Fu'ad Sayyid، A.، La Capitale de l'Egypte pp. ٧٧ - ٧٩، ٥٣٥ - ٣٧.