بجزيرة الرّوضة، وتحوّل النّاس من مساكنهم التي كانوا بها، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس وأدخلها في القلعة. وأنفق في عمارتها أموالا جمّة، وبنى فيها الدّور والقصور، وعمل لها ستين برجا، وبنى بها جامعا، وغرس بها جميع الأشجار، ونقل إليها عمد الصّوّان من البرابي وعمد الرّخام، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب، وما يحتاج إليه من الغلال والأزواد والأقوات، خشية من محاصرة الفرنج، فإنّهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر.
وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة، حتى قيل إنّه استقام كلّ حجر فيها بدينار، وكلّ طوبة بدرهم. وكان الملك الصّالح يقف بنفسه ويرتّب ما يعمل، فصارت تدهش من كثرة زخرفتها، وتحيّر النّاظر إليها من حسن سقوفها المقرنصة (a) وبديع رخامها.
ويقال إنّه قطع من الموضع الذي أنشأ فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظرة وطيب طعمه، وخرّب الهودج والبستان المختار، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجدا عمّرها خلفاء مصر وسراة المصريين لذكر اللّه تعالى وإقامة الصّلوات (١).
واتّفق له في هدم بعض هذه المساجد خبر غريب، قال الحافظ جمال الدّين يوسف بن أحمد ابن محمود بن أحمد الأسدي، الشهير باليغموري (٢): سمعت الأمير الكبير الجواد جمال الدّين أبا الفتح موسى ابن الأمير شرف الدّين يغمور بن جلدك بن عبد اللّه، قال: ومن عجيب ما شاهدته من الملك الصّالح أبي الفتوح نجم الدّين أيّوب ابن الملك الكامل - رحمه اللّه تعالى - أنّه أمرني أن أهدم مسجدا كان في جوار داره بجزيرة مصر. فأخّرت ذلك، وكرهت أن يكون هدمه على يديّ، فأعاد الأمر وأنا أكاسر عنه. فكأنّه (b) فهم منّي ذلك، فاستدعى بعض خدمه من نوّابي وأنا غائب، وأمره أن يهدم ذلك المسجد، وأن يبني في مكانه قاعة، وقدّر له صفتها. فهدم ذلك
(a) بولاق: المزينة. (b) بولاق: وكأنه. (١) كانت هذه القلعة تشغل مساحة لا تقلّ عن خمسة وستين فدّانا وتقع في الجزء الجنوبي من جزيرة الرّوضة. ويدلّ على موضعها الآن المنطقة التي تحدّ من الشمال بشارع المظفّر، ومن الغرب بنهر النيل، ومن الجنوب قصر حسن باشا فؤاد المناسترلي ومقياس النيل، ومن الشرق سيّالة جزيرة الرّوضة. وقد حلّ قصر المناسترلي في سنة ١٢٦٧ هـ/ ١٨٥٠ م محلّ جامع المقياس الذي شيّده أمير الجيوش بدر الجمالي في سنة ٤٨٥ هـ/ ١٠٩٢ م (فيما يلي ٢٩٠: ٢) والقسم الجنوبي من قلعة الرّوضة. (أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ٣٢٠: ٦ هـ ٣). (٢) انظر عنه فيما تقدم ١٦: ١.