الأعوان. فنزل من ذلك بالنّاس بلاء كبير وشدّة عظيمة. فإنّه أخذ حتى من الشّيخ والعجوز والأرملة، وجبي المال منهم بالعسف. وأبطل كثير منهم سببه لسعيه في الغرامة، ودهي النّاس مع الغرامة بتسلّط الظّلمة من العرفاء والضّمّان والرّسل. فكان يغرم كلّ أحد للقابض والشّادّ والصّيرفي والشّهود - سوى ما قرّر عليه - جملة دراهم؛ فكثر كلام النّاس في الوزير، حتى صاروا يلهجون بقولهم:«هذه سخطة مرصّصة نزلت من السّماء على أهل مصر». وقاسوا شدّة أخرى في تحصيل الأصناف التي يحتاج إليها.
ونزل الوزير منجك، وضرب له خيمة على جانب الرّوضة، ونادى في الحرافيش (١) والفعلة:
«من أراد العمل يحضر، ويأخذ أجرته درهما ونصفا وثلاثة أرغفة». فاجتمع إليه عالم كثير، وجعل لهم شيئا يستظلّون به من حرّ الشّمس، وأحسن إليهم، ورتّب عدّة مراكب لنقل الحجر، وأقام عدّة من الحجّارين في الجبل لقطع الحجر، وجمالا وحميرا تنقلها من الجبل إلى البحر، ثم تحمل من البرّ في المراكب إلى برّ الجيزة.
وابتدأ بعمل الجسر من الرّوضة إلى ساقية علم الدّين بن زنبور، وعارضه بجسر آخر من بستان التّاج ألحق (a) إلى ساقية ابن زنبور، وأقام أخشابا من الجهتين، وردم بينهما بالتّراب والحجر والحلفاء، ورتّب الجمال السّلطانية لقطع الطّين من برّ الرّوضة وحمله إلى وسط الجسر، وأمر أن لا يبقى بالقاهرة ومصر صانع إلاّ حضر العمل، وألزم من كان بالقرب من داره كوم تراب بمصر (b) أن ينقله إلى الجسر. فغرم كلّ واحد من النّاس في نقل التّراب من ألف/ درهم إلى خمس مائة درهم. وكان كلّ ما ينقل في المراكب من الحجر وغيره يرمى في وسط جسر المقياس، وتحمله الجمال إلى الجسر.
ثم اقتضى الرّأي حفر خليج يجري الماء فيه عند زيادة النّيل لتضعف قوّة التّيّار عن الجسر.
فأحضرت الأبقار والجراريف والرّجال لأجل ذلك، وابتدأوا حفره من رأس موردة الحلفاء تحت الدّور إلى بولاق، وكانت الزّيادة قد قرب أوانها، فما انتهى الحفر حتى زاد ماء النّيل وجرى فيه، فسّر النّاس به سرورا كبيرا، وانتهى عمل الجسر في أربعة أشهر؛ إلاّ أنّ الشّناعة قويت على
(a) بولاق: إسحاق. (b) ساقطة من بولاق. (١) انظر عن الحرافيش فيما تقدم ٩١ هـ ٢.