فصار السّلطان يشكره، ويثني عليه لما يبلغه من ذلك، وأمّا العامّة فإنّه ثقل عليها وكرهته، حتى إنّه لمّا تأمّر ابن الأمير بكتمر السّاقي، وركب إلى القبّة المنصوريّة على العادة ومعه أبوه والنّائب وسائر الأمراء، صاحت العامّة للأمير بكتمر الساقي: يا أمير بكتمر بحياة ولدك اعزل هذا الظّالم، وردّ علينا وإلينا - يعنون الخازن.
فلمّا عرّف بكتمر السّلطان ذلك أعجبه، وقال: يا أمير ما تخشى العامّة والسّوقة إلاّ ظالما مثل هذا ما يخاف اللّه تعالى. وزاد إعجاب السّلطان به حتّى قال له: لا تشاور في أمر المفسدين. فلم يغترّ بذلك، ورفع إليه جميع ما يتّفق له، وشاوره في كلّ جليل وحقير، وقال له: إنّ جماعة من الكتّاب والتّجّار قد عصروا الخمر، واستأذنه في طلبهم ومصادرتهم. فتقدّم له بمشاورة النائب في ذلك، وإعلامه أنّ السّلطان قد رسم بالكشف عمّن عصر من الكتّاب والتجّار الخمر. فلمّا صار إلى النّائب وعرّفه الخبر، أهانه وقال: إنّ السّلطان لا يرضى بكبس بيوت النّاس، وهتك حرمهم وسترهم وإقامة الشّناعات. وقام من فوره إلى السّلطان، وعرّفه ما يكون في فعل ذلك من الفساد الكبير، وما زال به حتى صرف رأيه عمّا أشار به قدادار من كبس الدّور، وأخذ النّاس في مماقتته، والإخراق به في كلّ وقت، فإنّه كان يعنى بالخازن، ولم يعجبه عزله عن الولاية.
فكثر جور قدادار، وزاد تتبّعه للنّاس، ونادى: «ألاّ يعمل أحد حلقة في (a) بين القصرين ولا يسمر هناك»، وأمر ألاّ يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة، وأقام عنه نائبا من بطّالي الحسينيّة ضمن المسطبة منه في كلّ يوم بثلاث مائة درهم. وانحصر النّاس منه، وضاقوا به ذرعا لكثرة ما هتك أستارهم، وخرق بكثير من المستورين. وتسلّطت المستصنعة وأرباب المظالم على النّاس، وكانوا إذا رأوا سكران أو شمّوا منه رائحة خمر أحضروه إليه. فتوقّى النّاس شرّه، وشكاه الأمراء غير مرّة إلى السّلطان فلم يلتفت لما يقال فيه. والنّائب مستمرّ على الإخراق به إلى أن قبض عليه السّلطان، فخلا الجوّ لقدادار، وأكثر من سفك الدّماء، وإتلاف النّفوس، والتّسلّط على العامّة لبغضهم إيّاه. والسّلطان يعجبه منه ذلك، بحيث أنّه أبرز مرسوما لسائر عمّاله وولاته أنّ أحدا منهم لا يقتصّ ممّن وجب عليه القصّاص، في النّفس أو القطع، إلاّ أن يشاور فيه ويطالع بأمره ما خلا قدادار متولّي (b) القاهرة، فإنّه لا يشاور على مفسد ولا غيره، ويده مطلقة في سائر النّاس.
فدهي النّاس منه بعظائم، وشرع في كبس بيوت السّعداء، ومشت جماعة من المستصنعين في