للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلمّا كان في سنة أربع وعشرين،/ كثرت الشّناعة في القاهرة بسبب الفلوس، وتعنّت النّاس فيها، وامتنعوا من أخذها حتى وقف الحال وتحسّن السّعر. وكان حينئذ يتقلّد الوزارة الأمير علاء الدّين مغلطاي الجمالي، ويتقلّد ولاية القاهرة الأمير علم الدّين سنجر الخازن.

فلمّا توجّه السّلطان الملك النّاصر محمد بن قلاوون من قلعة الجبل إلى السّرحة بناحية سرياقوس، بلغه توقّف الحال، وطمع السّوقة في النّاس، وأنّ متولّي القاهرة فيه لين، وأنّه قليل الحرمة على السّوقة. وكان السّلطان كثير النّفور من العامّة شديد البغض لهم، ويريد كل وقت من الخازن أن يبطش بالحرافيش ويؤثّر فيهم آثارا قبيحة، ويشهّر منهم جماعة، فلم يبلغ من ذلك غرضه فكرهه، واستدعى الأمير أرغون نائب السّلطنة، وتقدّم إليه بالإغلاظ في القول على الخازن بسبب فساد حال النّاس، وهمّ ببروز أمره بالقبض عليه وأخذ ماله.

فما زال به النّائب حتى عفا عنه، وقال: السّلطان يعزله ويولّي من ينفع في مثل هذا الأمر.

فاختار ولاية قدادار عوضه لما يعرف من يقظته وشهامته وجراءته على سفك الدّماء، فاستدعاه من البحيرة، وولاّه ولاية القاهرة في أوّل شهر رمضان من السنة المذكورة.

فأوّل ما بدأ به أن أحضر الخبّازين والباعة، وضرب كثيرا منهم بالمقارع ضربا مبرحا، وسمّر عدّة منهم في دراريب حوانيتهم، ونادى في البلد: «من ردّ فلسا سمّر»، ثم عرض أهل السّجن، ووسّط جماعة من المفسدين عند باب زويلة، فهابته العامّة وذعروا منه.

وأخذ يتتبّع من عصر خمرا، وأحضر عريف الحمّالين وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب.

فلمّا حضروا عنده استملاهم أسماء من يشتري العنب ومواضع مساكنهم، ثم أحضر خفراء الحارات والأخطاط، ولم يزل بهم حتى دلّوه على سائر من عصر الخمر.

فاشتهر ذلك بين النّاس وخافوه؛ فحوّل أهل حارة زويلة وأهل حارتي الرّوم والدّيلم وغير ذلك من الأماكن ما عندهم من الخمر، وصبّوها في البلاليع والأقنية، وألقوها في الأزقّة، وبذلوا المال لمن يأخذها منهم. فحصل لكثير من العامّة والأطراف منها شيء كثير، حتى صارت تباع كلّ جرّة خمر بدرهم، ويمرّ النّاس بأبواب الدّور والأزقّة فترى من جرار الخمر شيئا كثيرا، ولا يقدر أحد أن يتعرّض لشيء منها.

ثم ركب وكبس خطّ باب اللّوق، وأخذ منه شيئا كثيرا من الحشيش وأحرقه عند باب زويلة، واستمرّ الحال مدّة شهر ما من يوم إلاّ ويهرق فيه خمر عند باب زويلة، ويحرق حشيش. فطهّر اللّه به البلد من ذلك جميعه، وتتبّع الزّعّار وأهل الفساد، فخافوه وفرّوا من البلد.