للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والقطا وفراخ الحمام والعصافير المقلاة بمبلغ مائتي درهم وخمسين درهما فضّة، يكون عنها يومئذ نحو من اثني عشر مثقالا من الذّهب، وأنّ هذا كان دأبه في كلّ ليلة (١). ولا يكاد مثل هذا مع كثرته لرخاء الأسعار، يؤثّر نقصه فيما كان هنالك من هذا الصّنف، لعظم ما كان يوضع في بين القصرين من هذا النّوع وغيره.

ولقد أدركنا، في كلّ ليلة من بعد العصر، يجلس الباعة بصنف لحمان الطّيور التي تقلى صفّا من باب المدرسة الكامليّة إلى باب المدرسة النّاصريّة، وذلك قبل بناء المدرسة الظّاهريّة المستجدّة (٢)، فيباع لحم الدّجاج المطجّن ولحم الإوزّ المطجّن كلّ رطل بدرهم، وتارة بدرهم وربع، وتباع العصافير المقلوّة كلّ عصفور بفلس، حسابا عن كلّ أربعة وعشرين بدرهم.

والمشيخة تقول: إنّا حينئذ في غلاء لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزّمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير (٣).

ومع ذلك فلقد وقع في سنة ستّ وثمانين [وسبع مائة] (a) شيء لا يكاد يصدّقه اليوم من لم يدرك ذلك الزّمان؛ وهو أنّه كان لنا من بعض (b) جيراننا بحارة برجوان، شخص يعاني الجنديّة ويركب الخيل. فبلغني عن غلامه أنّه خرج في ليلة من ليالي رمضان - وكان رمضان إذ ذاك في فصل الصّيف - ومع رفيق له من غلمان الخيل، وأنّهما سرقا من شارع بين القصرين وما قرب منه بضعا وعشرين بطّيخة خضراء، وبضعا وثلاثين شقفة جبن، والشّقفة أبدا من نصف رطل إلى رطل. فما منّا إلاّ من تعجّب من ذلك، وكيف تهيّأ لاثنين فعل هذا وحمل هذا القدر يحتاج إلى دابّتين، إلى أن قدّر اللّه تعالى لي بعد ذلك أن اجتمعت بأحد الغلامين المذكورين وسألته عن ذلك فاعترف لي به. قلت: صف لي كيف عملتما. فذكر أنّهما كان يقفان على حانوت الجبّان أو مقعد البطّيحي - وكان إذ ذاك يعمل من البطّيخ في بين القصرين مرصّات كثيرة جدّا، في كلّ مرصّ ما شاء اللّه من البطّيخ - قال: فإذا وقفنا قلّب أحدنا بطّيخة، وقلّب الآخر أخرى، فلشدّة ازدحام النّاس يتناول أحدنا بطّيخته بخفّة يد وصناعة، ويقوم فلا يفطن به، أو يقلّب أحدنا


(a) زيادة لتوضيح المقصود.
(b) ساقطة من بولاق.
(١) أبو حامد المقدسي: الفوائد النفيسة الباهرة ١٣ - ١٤.
(٢) بنيت المدرسة الظاهرية المستجدة سنة ٧٨٦ - ٧٨٨ هـ/ ١٣٨٤ - ١٣٨٦ م.
(٣) وقع الفناء الكبير حول سنة ٧٤٩ هـ/ ١٣٤٩ م (انظر فيما تقدم ٢٢٤: ٢).