محمود بن خربنده بن إيغاني، تخوّف منه عدّة من المغل يعرفون بالأويراتيّة، وفرّوا عن بلاده إلى نواحي بغداد، فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي. وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللّحاق بالفرات، فأقاموا بها هنالك، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنونه في قطع الفرات ليعبروا إلى ممالك الشّام، فأذن لهم، وعدّوا الفرات إلى مدينة بهسنا (a) (١)، فأكرمهم نائبها، وقام لهم بما ينبغي من العلوفات والضّيافات.
وطولع الملك العادل زين الدّين كتبغا - وهو يومئذ سلطان مصر والشّام - بأمرهم؛ فاستشار الأمراء فيما يعمل بهم، فاتّفق الرأي على استدعاء أكابرهم إلى الدّيار المصرية، وتفريق باقيهم في البلاد السّاحلية وغيرها من بلاد الشّام. وخرج إليهم الأمير علم الدين سنجر الدّواداري والأمير شمس الدّين سنقر الأعسر إلى دمشق، فجهّزا من أكابر الأويراتية نحو الثلاث مائة للقدوم على السّلطان، وفرّقا من بقي منهم بالبقاع العزيزة وبلاد السّاحل.
ولمّا قرب الجماعة من القاهرة، خرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم، واجتمع النّاس من كلّ مكان حتى امتلأ الفضاء للنّظر إليهم. فكان لدخولهم يوم عظيم، صاروا إلى قلعة الجبل، فأنعم السّلطان على طرغاى مقدّمهم بإمرة طبلخاناه (b)، وعلى اللّوص بإمرة عشرة، وأعطى البقيّة تقادم في الحلقة وإقطاعات، وأجرى عليهم الرّواتب، وأنزلوا بالحسينيّة. وكانوا على غير الملّة الإسلامية، فشقّ ذلك على النّاس، وبلوا منهم (c) مع ذلك بأنواع من البلاء لسوء أخلاقهم، وكفر (d) نفوسهم، وشدّة جبروتهم.
وكان إذ ذاك بالقاهرة ومصر غلاء كبير وفناء عظيم، فتضاعفت المضرّة، واشتدّ الأمر على النّاس (٢)، وقال في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن دانيال:
(a) بولاق: بهنسا. (b) بولاق: طبلخانة. (c) ساقطة من بولاق. (d) بولاق: نفرة. (١) بهسنا. قلعة حصينة بقرب مرعش وسميساط من أعمال حلب (ياقوت: معجم البلدان ٥١٦: ١)، تعرف الآن باسم بسني Besni في شرق تركيا Cahen، Cl.، El ٢ art.) Besni I، pp. ١٢٢٥ - ٢٦; Edde، A.M.، La principaute ayyoubide d'Alep (٥٧٩/ ١١٨٣ - ٦٥٨/ ١٢٦٠)، Stuttgart ١٩٩٩، pp. ٤٩ - ٥٠، ٦٩٥. (٢) راجع عن غلاء سنة ٦٩٥ هـ/ ١٢٩٥ م، بيبرس المنصوري: زبدة الفكرة ٣٠٩؛ النويري: نهاية الأرب ٢٩٣: ٣١ - ٢٩٤؛ ابن أبيك: كنز الدرر ٣٦٣: ٨ - ٣٦٥، ابن حبيب: تذكرة النبيه ١٨٤: ١؛ ابن الفرات: تاريخ الدول والملوك ٢٠٨: ٨ - ٢١٠؛ المقريزي: السلوك ٨١٢: ١ - ٨١٣؛ أبا المحاسن: النجوم الزاهرة ٦٠: ٨، ٧٩؛ ابن إياس: بدائع الزهور ٣٨٩: ١/ ١ - ٣٩١.