إلى مكّة، وقد زوّده ابن حوشب بمال/، فسأل عن حجّاج كتامة فأرشد إليهم، واجتمع بهم وأخفى عنهم قصده. وذلك أنّه جلس قريبا منهم فسمعهم يتحدّثون بفضائل آل البيت، فحدّثهم في ذلك وأطال، ثم نهض ليقوم، فسألوه أن يأذن لهم في زيارته فأذن لهم، فصاروا يتردّدون إليه لما رأوا من علمه وعقله. ثم إنّهم سألوه: أين يقصد؟ فقال: أريد مصر. فسرّوا بصحبته ورحلوا من مكّة، وهو لا يخبرهم شيئا من خبره وما هو عليه من القصد، وشاهدوا منه عبادة وورعا وتحرّجا وزهادة. فقويت رغبتهم فيه، واشتملوا على محبّته، واجتمعوا على اعتقاده، وساروا بأسرهم خدما له. وهو في أثناء ذلك يستخبرهم عن بلادهم، ويعلم أحوالهم، ويفحص عن قبائلهم، وكيف طاعتهم للسّلطان بإفريقيّة. فقالوا له: ليس له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيام. قال: أفتحملون السّلاح؟ قالوا: هو شغلنا. وما برح حتى عرف جميع ما هم عليه.
فلمّا وصلوا إلى مصر أخذ يودّعهم، فشقّ عليهم فراقه، وسألوه عن حاجته بمصر، فقال: ما لي بها من حاجة إلاّ أنّي أطلب التّعليم بها. قالوا: فأمّا إذا كنت تقصد هذا، فإنّ بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك، ونحن أعرف بحقّك. وما زالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم. فساروا به إلى أن قاربوا بلادهم، وخرج إلى لقائهم أصحابهم - وكان عندهم حسّ كبير من التّشيّع، واعتقاد عظيم في محبّة أهل البيت كما قرّره الحلواني - فعرّفهم القوم خبر أبي عبد اللّه، فقاموا بحقّ تعظيمه وإجلاله، ورغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيّفه.
ثم ارتحلوا إلى أرض كتامة، فوصلوا إليها منتصف ربيع (a) الأوّل سنة ثمان وثمانين ومائتين، فما منهم إلاّ من سأله أن يكون منزله عنده، فلم يوافق أحدا منهم وقال: أين يكون فجّ الأخيار؟ فعجبوا من ذلك، ولم يكونوا قد ذكروه له منذ صحبوه، فدلّوه عليه فقصده وقال: إذا حللنا به صرنا نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم، ونزورهم في بيوتهم. فرضوا جميعا بذلك (١).
وسار إلى جبل إيكجان (b) (٢) وفيه فجّ الأخيار، فقال: هذا فجّ الأخيار وما سمّي إلاّ بكم، ولقد جاء في الآثار للمهدي هجرة ينبو بها عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزّمان، قوم اسمهم مشتقّ من الكتمان، ولخروجكم في هذا الفجّ سمّي فجّ الأخيار.
(a) بولاق: الربيع. (b) بولاق: إيلحان تصحيف. (١) عماد الدين إدريس. تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب ٨٤ - ٨٩. (٢) إيكجان. مدينة في المغرب الأوسط (الجزائر الحالية) تقع بين مدن قسنطينة جنوبا وميلة شمالا وسطيف غربا.