ولم (١) يزل على حال رفيعة وكلمة نافذة إلى أن ابتدأت به علّته يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة (a) سنة ثمانين وثلاث مائة، ونزل إليه العزيز باللّه يعوده، وقال له: وددت أنّك تباع فأبتاعك بمالي، أو تفدى فأفديك بولدي، فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب؟ فبكى وقبّل يده، وقال: أمّا فيما يخصّني فأنت أرعى بحقّي من أن أسترعيك إيّاه، وأرأف عليّ من أن أوصيك به. ولكنّي أنصح لك فيما يتعلّق بك وبدولتك: سالم الرّوم ما سالموك، واقنع من الحمدانيّة بالدّعوة والشّكر، ولا تبق على مفرّج بن دغفل إن عرضت لك فيه فرصة. وانصرف العزيز، فأخذته السّكتة. وكان في سياق الموت يقول:«لا يغلب اللّه غالب».
ثم قضى نحبه ليلة الأحد لخمس خلون من ذي الحجّة، فأرسل العزيز باللّه إلى داره الكفن والحنوط، وتولّى غسله القاضي محمد بن النّعمان، وقال: كنت واللّه أغسل لحيته وأنا أرفق به خوفا أن يفتح عينه في وجهي. وكفّن في خمسين ثوبا بين مثقل (b) - يعني منسوجا بالذّهب - ووشي مذهّب وشرب دبيقي مذهّبا وحقّة كافور وقارورتي مسك، وخمسين منّا ماء ورد؛ وبلغت قيمة الكفن والحنوط عشرة آلاف دينار.
وخرج مختار الصّقلبي (c) وعليّ بن عمر العدّاس والرجال بين أيديهم ينادون: لا يتكلّم أحد ولا ينطق. وقد اجتمع النّاس فيما بين القصر ودار الوزير التي عرفت بدار الدّيباج. ثم خرج العزيز من القصر على بغلة، والنّاس يمشون بين يديه وخلفه بغير مظلّة والحزن ظاهر عليه، حتى وصل إلى داره، فنزل وصلّى عليه وقد طرح على تابوته ثوب مثقل، ووقف حتى دفن بالقبّة التي كان بناها وهو يبكي، ثم انصرف. وسمع العزيز وهو يقول: واطول/ أسفي عليك يا وزير، واللّه لو قدرت أفديك بجميع ما أملك لفعلت.
وأمر بإجراء غلمانه على عادتهم، وعتق جميع مماليكه، وأقام ثلاثا لا يأكل على مائدته، ولا يحضرها من عادته الحضور.
وعمل على قبره ثوبان مثقلان، وأقام النّاس عند قبره شهرا، وغدا الشّعراء إلى قبره، فرثاه مائة شاعر أجيزوا كلّهم.
(a) بولاق والنسخ: شوال والتصويب من المسودة. (b) بولاق: ثلاثين مثقلا وهو تصحيف والتصويب من المسودة. (c) المسودة: العزيزي. (١) مصدر المعلومات التالية كما في المسودة هو المؤرخ المسبّحي.