ويضيف المقريزي:«ثم دخل أمير الجيوش بدر الجمالي مصر في سنة ستّ وستين وأربع مائة، وهذه المواضع خاوية على عروشها خالية من سكّانها وأنيسها، قد أبادهم الوباء واليباب وشتّتهم الموت والخراب ولم يبق بمصر إلاّ بقايا من النّاس كأنّهم أموات قد اصفرّت وجوههم وتغيّرت سحنهم من غلاء الأسعار وكثرة الخوف من العسكرية وفساد طوائف العبيد والملحيّة، ولم يجد من يزرع الأراضي؛ هذا والطّرقات قد انقطعت برّا وبحرا إلاّ بخفارة وكلفة كبيرة. وصارت القاهرة أيضا يبابا دائرة، فأباح للنّاس من العسكرية والملحيّة والأرمن وكلّ من وصلت قدرته إلى عمارة أن يعمر ما شاء في القاهرة ممّا خلا من دور الفسطاط بموت أهلها، فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر وعمرّوا بها في القاهرة وكان هذا أوّل وقت اختطّ النّاس فيه بالقاهرة»(١).
يتّضح ممّا ذكره المقريزي أنّ اهتمام القضاعي - مثل سابقيه - انصبّ على الفسطاط العاصمة التجارية لمصر ومركز نشاطها العلمي والاقتصادي، فقد كانت القاهرة حتى هذا الوقت مدينة خاصّة ولم يبحها بدر الجمالي بعد أن وصل إلى مصر إلاّ لبعض فرق الجند نتيجة خراب الفسطاط وهجرة أهلها لها. وقد دثر أكثر ما ذكره الكندي والقضاعي من خطط الفسطاط أوّلا بسبب الشّدّة العظمى ثم بسبب حريق الفسطاط المتعمّد سنتي ٥٥٩ هـ/ ١٠٦٤ م و ٥٦٤ هـ/ ١٠٦٨ م (٢) وأخيرا بسبب انتقال ميناء القاهرة في القرن التاسع من الفسطاط إلى بولاق شمال القاهرة (٣).
وزالت معالم الفسطاط تماما في القرن التاسع الهجري؛ وذلك رغم أنّ «أكثر بناء الفسطاط كان بالآجرّ المحكوك والجبس والجير من أوثق بناء وأمكنه وآثاره الباقية تشهد له بذلك» كما يقول القلقشندي (٤) الذي يضيف: «وإذا نظرت إلى خطط الكندي والقضاعي والشّريف النّسّابة عرفت ما كان الفسطاط عليه من العمارة وما صار إليه الآن»(٥).
وقد كانت معرفة الكندي والقضاعي بخطط مصر والفسطاط معرفة كبيرة حتى قال عنهما المقريزي:«وناهيك بهما معرفة لآثار مصر وخططها»(٦) وأضاف قائلا: «وعليهما
(١) المقريزي: المواعظ والاعتبار فيما يلي ٩ - ١٠. (٢) نفسه ٣٣٧: ١ - ٣٣٩ Kubiak، W.، «The burning of misr al-fusta? t in ١١٦٨.a Reconsideration of Historical Evidence»، Africana Bulletin XXV (١٩٧٩)، pp. ٥١ - ٦٤; Fu'a? d Sayyid، A.، La capitale de I'egypte jusqu'a? l'epoque fatimide، pp. ٦٦٦ - ٦٧٦. (٣) Garcin، J.Cl.، «La «Mediterranesation» de I'empire mamelouk sous les sultans bahrides»، RSOXL VIII (١٩٧٣ - ٧٤)، p. ١١٤. (٤) القلقشندي: صبح ٣٣٤: ٣. (٥) نفسه ٣٣٤: ٣. (٦) المقريزي: الخطط ٢٨٢: ٢ - ٢٨٣.