للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعظم الازدحام، وكان في موضع طبّاخين والدّخان في وجه الوزير وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة، وكدت أهلك في جملتهم.

وأكثر دروب القاهرة ضيّقة مظلمة كثيرة التّراب والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيّقت مسلك الهواء والضّوء بينهما، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ حالا منها في ذلك، ولقد كنت إذا مشيت فيها يضيق صدري، ويدركني وحشة عظيمة حتى أخرج إلى بين القصرين (١).

ومن عيوب القاهرة أنّها في أرض النّيل الأعظم، ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النّيل لئلاّ يصادرها ويأكل ديارها. وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السّور إلى موضع يعرف بالمقس (٢)، وجوّها لا يبرح كدرا بما تثيره الأرجل من التّراب الأسود.

وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفقائي (a) من الحضّ على العود إليها (b):

[المتقارب]

يقولون: سافر إلى القاهرة … وما لي بها راحة ظاهرة

زحام وضيق وكرب وما … تثير بها أرجل السّائرة

وعند ما يقبل المسافر عليها يرى سورا أسود كدرا (c) وجوّا مغبرّا، فتنقبض نفسه، ويفرّ أنسه (٣).

وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة «أرض الطّبّالة» (٤)، لا سيّما أيّام (d) القرط والكتّان، فقلت/ (e):

[الطويل]

سقى اللّه أرضا كلّما زرت أرضها … كساها وحلاّها بزينته القرط

تجلّت عروسا والمياه عقودها … وفي كلّ قطر من جوانبها قطر


(a) بولاق: رفاقي.
(b) بولاق: فيها.
(c) المسودة: أسوارا سوداء كدراء.
(d) بولاق: أرض.
(e) النص عند ابن سعيد. وبلغني أن الفاضل زين الدين الدمشقي الحنفي المشهور بابن السّرّاج صنع في هذه الأرض بيتين جانس فيهما بين القرط - وهو النبات الذي ترعاه الدواب - وبين قرط الأذن، ولم أقف عليهما. فقلت والفضل للمتقدم.
(١) ابن سعيد: النجوم الزاهرة ٢٤؛ المقريزي: مسودة المواعظ ٢٢ - ٢٣.
(٢) فيما يلي ١٢١: ٢ - ١٢٤.
(٣) ابن سعيد: النجوم ٢٥؛ المقريزي: مسودة المواعظ ٢٣.
(٤) فيما يلي ١٢٥: ٢ - ١٢٦.