للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولقد تأمّلت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك، فعلمت أنّه سرّ مودع من وقوف الصّحابة - رضوان اللّه عليهم - في ساحته عند بنائه، واستحسنت ما أبصرته فيه من حلق المصدّرين لإقراء القرآن والفقه والنّحو في عدّة أماكن، وسألت عن موارد أرزاقهم فأخبرت أنّها من فروض الزّكاة وما أشبه ذلك/، ثم أخبرت أنّ اقتضاءها يصعب إلاّ بالجاه والتّعب.

ثم انفصلنا من هنالك إلى ساحل النّيل، فرأيت ساحلا كدر التّربة، غير نظيف ولا متّسع السّاحة ولا مستقيم الاستطالة ولا عليه سور أبيض، إلاّ أنّه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار الأرض والنّيل، ولئن قلت إنّي لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك السّاحل، فإنّي أقول حقّا.

والنّيل هنالك ضيّق لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الدّيار المصرية الآن (١) قلعته، قد توسّطت الماء، ومالت إلى جهة الفسطاط، وبحسن سورها المبيّض الشّامخ حسن منظر الفرجة في ذلك السّاحل.

وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدّا من الفسطاط إلى الجزيرة وهو غير طويل، ومن الجانب الآخر إلى البرّ الغربي - المعروف ببرّ الجيزة - جسر آخر من الجزيرة إليه (٢). وأكثر جواز النّاس بأنفسهم ودوابهم في المراكب؛ لأنّ هذين الجسرين قد اخترما بحصولهما في حيّز قلعة السّلطان، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الجزيرة والفسطاط راكبا احتراما لموضع السّلطان (٣).

وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيّارة (٤) مرتفعة على جانب النّيل، فقلت:

[الطويل]

نزلنا من الفسطاط أحسن (a) منزل … بحيث امتداد النّيل قد دار كالعقد

وقد جمعت فيه المراكب سحرة … كسرب قطا أضحى يرفّ على ورد


(a) ابن سعيد: أرفع. منتصف القرن الخامس الهجري زمن المستنصر باللّه الفاطمي (سفرنامه ١٠٢).
(١) أي السّلطان الصّالح نجم الدين أيّوب، وانظر عن قلعة الروضة فيما يلي ١٨٣: ٢ - ١٨٥.
(٢) ابن حوقل: كتاب صورة الأرض ١٤٦. وفيما تقدم ١٦٣: ١.
(٣) فيما يلي ١٧٠: ٢.
(٤) طيّارة ج. طيّارات. ضرب من السّفن النهرية