للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: ولا ينبغي لأحد أن ينكر كثرة بنيانهم، ولا مدائنهم ولا ما نصبوه من الأعلام العظام، فقد كان للقوم بطش لم يكن لغيرهم، وإنّ آثارهم لبيّنة، مثل الأهرام والأعلام والإسكندرية، وما في صحاري الشّرق، والجبال المنحوتة التي جعلوا كنوزهم فيها والأدوية المنحوتة، ومثل ما بالصّعيد من البرابي وما نقشوه عليها من حكمتهم؛ فلو تعاطى جميع ملوك الأرض أن يبنوا مثل الهرمين ما تهيّأ لهم، وكذلك أن ينقشوا بربا لطال بهم الأمد ولم يمكنهم.

وحكي عن قوم من البنّائين، في ضياع الغرب، أنّ عاملا عندهم عنف بهم، ففرّوا في صحراء الغرب ومعهم زاد إلى أن تنصلح أحوالهم ويرجعوا؛ فلمّا كانوا على مسيرة يوم وبعض آخر، قدموا إلى سفح جبل، فوجدوا عيرا أهليّا قد خرج من بعض الشّعاب، فتبعه بعضهم، فانتهى إلى مساكن وأشجار ونخل ومياه تطّرد (١)، وقوم هناك/ يرعون ولهم مساكن، وكلّمهم وأعجب بهم. فجاء إلى أصحابه، وقدم بهم على أولئك القوم، فسألوهم عن حالهم فأخبروهم، وأقاموا عندهم حتى صلحت أحوالهم، وخرجوا ليأتوا بأهاليهم ومواشيهم ويقيموا عندهم، فساروا مدّة وهم لا يعرفون الطّريق ولا يتأتّى لهم العود، فأسفوا على ما فاتهم.

وضلّ آخرون عن الطّريق في الغرب، فوقعوا على مدينة عامرة كثيرة النّاس والمواشي والنّخل والشّجر، فأضافوهم وأطعموهم وسقوهم، وباتوا في طاحونة، فسكروا من الشّراب وناموا، فلم ينتبهوا إلاّ من حرّ الشّمس، فإذا هم في مدينة خراب ليس فيها أحد؛ فخافوا وخرجوا، وظلّوا يومهم سائرين إلى المساء، فظهرت لهم مدينة أكبر من الأولى وأعمر: وأكثر أهلا وشجرا ومواشي، فأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة الأولى، فجعلوا يعجبون منهم ويضحكون، وانطلقوا بهم إلى وليمة لبعض أهل المدينة، فأكلوا وشربوا وغنّوهم (a) حتى سكروا.

فلمّا كان من الغد انتبهوا، فإذا هم في مدينة عظيمة ليس فيها أحد، وحولها نخل قد تساقط ثمرة وتكدّس. فخرجوا، وهم يجدون ريح الشّراب ومعاني (b) الخمار، فساروا يوما إلى المساء، وإذا راع يرعى غنما، فسألوه عن الطّريق فدلّهم، فساروا بعض يوم من الغد، فوصلوا مدينة الأشمونين بالصّعيد.


(a) بولاق: غنوا بهم.
(b) بولاق: مبادي.
(١) تطّرد: تجري.