فقام عبد اللّه بن سعد بين ظهراني النّاس فقال: قد (a) بلغني أنّ ابن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب، فأشيروا عليّ، فما كلّمه رجل من المسلمين (١)؛ فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم، ثم قام الثانية فكلّمهم، فما كلّمه أحد؛ فجلس، ثم قام الثالثة فقال: إنّه لم يبق شيء فأشيروا عليّ.
فقام رجل من أهل المدينة - كان متطّوعا مع عبد اللّه بن سعد - فقال: أيّها الأمير إنّ اللّه جلّ ثناؤه يقول: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ وَاَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ﴾ [الآية ٢٤٩ سورة البقرة].
فقال عبد اللّه: اركبوا [بسم اللّه] (b)، فركبوا، وإنّما في كلّ مركب نصف شحنته، لأنّه قد خرج النصف الآخر إلى البرّ مع بسر، فلقوهم فاقتتلوا بالنّبل والنّشّاب. وتأخّر ابن هرقل لئلاّ تصيبه الهزيمة، وجعلت القوارب تختلف إليه بالأخبار، فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد اقتتلوا بالنّبل والنّشّاب؛ فقال: غلبت الرّوم. ثم أتوه، فقال: ما فعلوا؛ قالوا: قد نفد النّبل والنّشّاب، فهم يرتمون بالحجارة؛ فقال: غلبت الرّوم؛ ثم أتوه، فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفدت الحجارة، وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسّيوف؛ قال: غلبت الرّوم.
وكانت السّفن إذ ذاك تقرن بالسّلاسل عند القتال. قال: فقرن مركب عبد اللّه يومئذ - وهو الأمير - بمركب من مراكب العدوّ، فكان مركب العدوّ يجتر مركب عبد اللّه إليهم، فقام علقمة ابن يزيد الغطيفي (c)، وكان مع عبد اللّه بن سعد في المراكب، فضرب السّلسلة بسيفه فقطعها.
فسأل عبد اللّه امرأته بعد ذلك بسيسة ابنة حمزة بن ليشرح (٢) - وكانت مع عبد اللّه يومئذ، وكان الناس يعزون بنسائهم في المراكب - من رأيت أشدّ قتالا؟ قالت: علقمة صاحب السّلسلة.
وكان عبد اللّه قد خطب بسيسة إلى أبيها فقال له: إنّ علقمة قد خطبها، وله عليّ فيها رأي،
(a) ساقطة من بولاق. (b) زيادة من ابن عبد الحكم. (c) بولاق: القطيفي. (١) خلط المقريزي بين روايتين لابن عبد الحكم الرواية الرئيسة لليث بن سعد، وفيها أن ملك الروم هو هرقل، ورواية أخرى لم يحدّد صاحبها تذكر أن ملك الروم «إنما هو ابن هرقل، لأن هرقل مات في سنة تسع عشرة والمسلمون محاصرون الإسكندرية». وقد رجح المقريزي الرواية الثانية واعتمد أن ملك الروم هو ابن هرقل. (٢) ليشرح. اسم مختصر من الاسم الحميري «إليشرح» وهو اسم معروف في النقوش السبئية والمعينية القديمة. (Torrey، Fu? tu? h ٥٧)