للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلمّا كان في جمادى الأولى سنة ستّ عشرة ومائتين، انتقض أسفل الأرض بأسره - عرب البلاد وقبطها - وأخرجوا العمّال، وخلعوا الطّاعة لسوء سيرة عمّال السّلطان فيهم. فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدت إلى أن قدم الخليفة عبد اللّه أمير المؤمنين المأمون إلى مصر، لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى بن منصور الرّافقي - وكان على إمارة مصر - وأمر بحلّ لوائه وأخذه بلباس البياض عقوبة له، وقال: «لم يكن هذا الحدث العظيم إلاّ عن فعلك وفعل عمّالك، حمّلتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر، واضطرب البلد» (١).

ثم عقد المأمون (٢) على جيش بعث به إلى الصّعيد، وارتحل هو إلى سخا، وبعث بالأفشين إلى القبط - وقد خلعوا الطّاعة - فأوقع بهم في ناحية البشرود، وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين، فحكم فيهم المأمون بقتل الرّجال وبيع النّساء والأطفال، فسبي أكثرهم. وتتبّع المأمون كلّ من يوما (a) إليه بخلاف، فقتل ناسا كثيرا، ورجع إلى الفسطاط في صفر، ومضى إلى حلوان، وعاد فارتحل لثمان عشرة خلت من صفر. وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما (٣).

وكان خراج مصر قد بلغ في أيّام المأمون - على حكم الإنصاف في الجباية - أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار وسبعة وخمسين ألف دينار. ويقال إنّ المأمون لمّا سار في قرى مصر، كان يبنى له بكلّ قرية دكّة يضرب عليها سرادقه والعساكر من حوله. وكان يقيم في القرية يوما وليلة، فمرّ بقرية يقال لها «طاء النّمل» فلم يدخلها لحقارتها. فلمّا تجاوزها خرجت إليه عجوز - تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية - وهي تصيح، فظنّها المأمون مستغيثة متظلّمة، فوقف لها - وكان لا يمشي أبدا إلاّ والتراجمة بين يديه من كل جنس فذكروا له أنّ القبطية قالت: يا أمير المؤمنين، نزلت في كلّ ضيعة وتجاوزت ضيعتي، والقبط تعيّرني بذلك، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرّفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشّرف والعقبى، ولا تشمت بي الأعداء، وبكت بكاء كثيرا. فرقّ لها المأمون، وثنى عنان فرسه إليها ونزل. فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله:

كم تحتاج من الغنم والدّجاج والفراخ والسّمك والتّوابل والسّكّر والعسل والطّيب والشّمع


(a) الأصل وبولاق: يومي.
(١) الكندي: ولاة مصر ٢١٦.
(٢) لأبي مغيث موسى بن إبراهيم.
(٣) الكندي: ولاة مصر ٢١٦.