وكانت الصّدوقية (a) تعادي المعتزلة عداوة شديدة، وكان الملك هورقانوس أوّلا على رأي المعتزلة - وهو مذهب آبائه - ثم إنّه رجع إلى مذهب الصّدوقية (a)، وباين المعتزلة وعاداهم، ونادى في سائر مملكته بمنع الناس جملة من تعلّم رأي المعتزلة والأخذ عن أحد منهم، وتتبّعهم وقتل منهم كثيرا (١).
وكانت العامّة بأسرها مع المعتزلة، فثارت الشّرور بين اليهود، واتّصلت الحروب بينهم، وقتل بعضهم بعضا (٢) إلى أن خرّب البيت على يد طيطش الخراب الثّاني، بعد رفع عيسى - صلوات اللّه عليه - وتفرّق اليهود من حينئذ في أقطار الدّنيا، وصاروا ذمّة، والنصارى تقتلهم حيثما ظفرت بهم، إلى أن جاء اللّه بالملّة الإسلامية، وهم في تفرّقهم ثلاث فرق: الرّبّانيون، والقرّاء، والسّمرة.
فأمّا «الرّبّانيّة» فيقال لهم بنو مشنو - ومعنى مشنو: الثّاني - وقيل لهم ذلك لأنّهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيا، بعد عودهم من الجلاية وخرّبه طيطش، وينزلونه في الاحترام والإكرام والتّعظيم منزلة البيت الأوّل الذي ابتدأ عمارته داود، وأتمّه ابنه سليمان ﵉ وخرّبه بخت نصّر، فصار كأنّه يقال لهم «أصحاب الدّعوة الثّانية». وهذه الفرقة هي التي كانت تعمل بما في المشنا الذي كتب بطبريّة بعد تخريب طيطش القدس، وتعوّل في أحكام الشّريعة على ما في التّلمود إلى هذا الوقت الذي نحن فيه، وهي بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية، متّبعة لآراء من تقدّمها من الأحبار (٣).
ومن اطّلع على حقيقة دينها، تبيّن له أنّ الذي ذمّهم اللّه به في القرآن الكريم حقّ لا مرية فيه، وأنّه لا يصحّ لهم من اسم اليهوديّة إلاّ مجرّد الانتماء فقط، لا أنّهم في الاتّباع على الملّة الموسويّة، لا سيّما منذ ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبي، بعد الخمس مائة من سني الهجرة المحمّديّة، فإنّه ردّهم مع ذلك معطّلة، فصاروا في أصول دينهم وفروعه أبعد الناس عمّا جاء به أنبياء اللّه تعالى من الشّرائع الإلهية (٤).
وأمّا «القرّاء» فإنّهم بنو مقرا - ومعنى مقرا: الدّعوة - وهم لا يعوّلون على البيت الثّاني جملة. ودعوتهم إنّما هي لما كان عليه العمل مدّة البيت الأوّل، وكان يقال لهم «أصحاب
(a) بولاق: الصدوفية. (١) يوسف بن كريون: منتخبات من تاريخ يوسفوس ٩٣ - ٩٤. (٢) نفسه ٩٥ - ٩٦. (٣) القلقشندي: صبح الأعشى ٢٥٦: ١٣ - ٢٦٧. (٤) فيما تقدم ٩٥٢.