وتقدّم النصرانيّ فرأى موضعا بها يحتاج إلى قصريّة جير وأربع طوبات، فبادر إلى عمل ذلك. وأقبل أحمد بن طولون يتأمّل العين، فاستحسن جميع ما شاهده فيها، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصريّة الجير، فوقف بالاتّفاق عليها، فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد، ولسوء ظنّه قدّر أن ذلك لمكروه أراد به النصرانيّ، فأمر به فشقّ عنه ما عليه من الثّياب، وضربه خمس مائة سوط، وأمر به إلى المطبق، وكان المسكين يتوقّع من الجائزة مثل ذلك دنانير، فاتّفق له اتّفاق سوء.
وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصرانيّ، إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع، فقدّر له ثلاث مائة عمود، فقيل له: ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضّياع الخراب فتحمل ذلك، فأنكره ولم يختره، وتعذّب قلبه بالفكر في أمره.
وبلغ النصرانيّ وهو في المطبق الخبر، فكتب إليه: أنا أبنيه لك كما تحبّ وتختار بلا عمد إلاّ عمودي القبلة، فأحضره - وقد طال شعره حتى تدلّى على وجهه - فبناه (١).
قال: ولمّا بنى أحمد بن طولون هذه السّقاية. بلغه أنّ قوما لا يستحلّون شرب مائها. قال محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم الفقيه: كنت ليلة في داري، إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد ابن طولون، فقال لي: الأمير يدعوك. فركبت مذعورا مرعوبا، فعدل بي عن الطريق، فقلت:
أين تذهب بي؟ فقال: إلى الصّحراء والأمير فيها. فأيقنت بالهلاك، وقلت للخادم: اللّه اللّه فيّ، فإنّي شيخ كبير ضعيف مسنّ، فتدري ما يراد منّي فارحمني. فقال لي: احذر أن يكون لك في السّقاية قول.
وسرت معه وإذا بالمشاعل في الصّحراء، وأحمد بن طولون راكب على باب السّقاية وبين يديه الشّمع، فنزلت وسلّمت عليه، فلم يردّ عليّ، فقلت: أيّها الأمير إنّ الرّسول أعنتني وكدّني وقد عطشت، فيأذن لي الأمير في الشّرب، فأراد الغلمان أن يسقوني، فقلت: أنا آخذ لنفسي فاستقيت وهو يراني، وشربت وازددت في الشّرب حتى كدت أنشق، ثم قلت: أيّها الأمير، سقاك اللّه من أنهار الجنّة فلقد أرويت/ وأغنيت، ولا أدري ما أصف: أطيب الماء في حلاوته وبرده، أم صفاءه، أم طيب ريح السّقاية؟ قال: فنظر إليّ وقال: أريدك لأمر وليس هذا وقته، فاصرفوه، فصرفت. فقال لي الخادم: أصبت. فقلت: أحسن اللّه جزاءك، فلولاك لهلكت (٢).
(١) البلوي: سيرة أحمد بن طولون ١٨٠ - ١٨٢. (٢) لم أجد هذا النصّ فيما وصل إلينا من «السيرة -