حقائق العزيمة، والتزموا ألاّ يدّخروا شيئا، وتركوا الجمع والاستكثار من الدّنيا، ولم يتقشّفوا، ولا زهدوا ولا تعبّدوا، وزعموا أنّهم قد قنعوا بطيب قلوبهم مع اللّه تعالى، واقتصروا على ذلك، وليس عندهم تطلّع إلى طلب مزيد سوى ما هم عليه من طيب القلوب.
والفرق بن الملامتي والقلندري: أنّ الملامتي يعمل في كتم العبادات، والقلندري يعمل في تخريب العادات. والملامتي متمسّك بكلّ أبواب البرّ والخير، ويرى الفضل فيه، إلاّ أنّه يخفي أعماله وأحواله (a)، ويوقف نفسه موقف العوامّ في هيئته وملبوسه، سترا للحال حتى لا يفطن له، وهو مع ذلك متطلّع إلى طلب (b) المزيد من العبادات. والقلندري لا يتقيّد بهيئة، ولا يبالي بما يعرف من حاله وما لا يعرف، ولا ينعطف إلاّ على طيب القلوب وهو رأس ماله (١).
وهذه الزّاوية خارج باب النصر من القاهرة، من الجهة التي فيها التّرب والمقابر التي تلي المساكن، أنشأها الشّيخ حسن الجوالقي القلندري، أحد فقراء العجم القلندريّة على رأي الجوالقة (٢). ولمّا قدم إلى ديار مصر، تقدّم عند أمراء الدّولة التركية، وأقبلوا عليه واعتقدوه، فأثرى ثراء زائدا في سلطنة الملك العادل كتبغا، وسافر معه من مصر إلى الشّام. فاتّفق أنّ السّلطان اصطاد غزالا، ودفعه إليه ليحمله إلى صاحب حماه. فلمّا أحضره إليه، ألبسه تشريفا من حرير طرد وحش (c) (٣) وكلّوتة زركش، فقدم بذلك على السّلطان، فأخذ الأمراء في مداعبته، وقالوا له على سبيل الإنكار: كيف تلبس الحرير والذّهب وهما حرام على الرّجال؟ فأين التّزهّد وسلوك طريق الفقر؟ ونحو ذلك.
(a) بولاق: أحواله وأعماله. (b) ساقطة من بولاق. (c) بولاق: طرزوحش. - منظّمة، وإن كانت توجد فروق جذريّة بين تفكير ومباشرة الملامتية والقلندريّة كما لا حظ ذلك السّهروردي في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي. (عوارف المعارف، القاهرة ١٩٧٣، ٧٢ - ٧٥). وراجع لمزيد من التّفصيلات حول هذا الموضوع، أبا العلا عفيفي: «رسالة الملامتية لأبي عبد الرحمن محمد السّلمي»، مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة ٦ (مايو ١٩٤٢)، ٤٧ - ١٠٥؛ IV، p. ٤٣٩؛ المقريزي: السلوك ٦٥٥: ١ - ٦٥٦ هـ ٤. (١) السهروردي: عوارف المعارف ٧٦ (وهو مصدر نقل المقريزي). (٢) يدل على موقع هذه الزّاوية الآن الجامع المعروف ب «جامع الخواصّ» الكائن بحارة الخوّاص المتفرّعة من شارع الحسينية خارج باب الفتوح. (راجع، المقريزي: السلوك ٢٣٩: ٢؛ ابن حجر: الدرر الكامنة ١٣٥: ٢ - ١٣٦؛ أبا المحاسن: النجوم الزاهرة ٢٥٦: ٩ - ٢٥٧ هـ ٤). (٣) انظر عن نسيج الطردوحش، فيما تقدم ٧٣٧: ٣ هـ ١.