للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتحكّم الأمير يشبك، فاستدعى عند ذلك ابن غراب أخاه فخر الدّين ماجدا من الإسكندرية، وهو يلي نظرها، إلى قلعة الجبل، وفوّضت إليه وزارة الملك الناصر فرج بن برقوق، فقاما بسائر أمور الدّولة إلى أن ولي الأمير يلبغا السّالمي الأستادّارية، فسلك معه عادته من المنافسة، وسعى به عند الأمير يشبك حتى قبض عليه، وتقلّد وظيفة الأستادّارية عوضا عن السّالمي، في رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمان مائة، مضافا إلى نظر الخاصّ ونظر الجيوش. فلم يغيّر زيّ الكتّاب، وصار له ديوان كدواوين الأمراء، ودقّت الطبول على بابه، وخاطبه الناس وكاتبوه بالأمير، وسار في ذلك سيرة ملوكية من كثرة العطاء، وزيادة الأسمطة، والاتّساع في الأمور، والازدياد من المماليك والخيول، والاستكثار من الخول والحواشي حتى لم يكن أحد يضاهيه في شيء من أحواله. إلى أن تنازع الأميران جكم وسودون طاز مع الأمير يشبك، فكان هو المتولّي كبر تلك الحروب.

ثم إنّه خرج من القاهرة مغاضبا لأمراء الدّولة، وصار إلى ناحية ترّوجة يريد جمع العربان ومحاربة الدّولة، فلم يتمّ له ذلك وعاد، فدخل القاهرة على حين غفلة، فنزل عند جمال الدّين يوسف الأستادّار، فقام بإصلاح أمره مع الأمراء حتى حصل له الغرض، فظهر واستولى على ما كان عليه، إلى أن تنكّرت رجال الدّولة على الملك الناصر فرج، فقام مع الأمير يشبك بحرب السّلطان إلى أن انهزم الأمير يشبك بأصحابه إلى الشّام، فخرج معه في سنة تسع وثمان مائة، وأمدّه ومن معه بالأموال العظيمة حتى صاروا عند الأمير شيخ نائب الشّام، واستنفر العساكر لقتال الملك الناصر، وحرّضهم على المسير إلى حربه وخرج من دمشق مع العساكر يريد القاهرة؛ فكان من وقعة السّعيدية ما كان، على ما هو مذكور في خبر الملك الناصر، عند ذكر «الخانقاه الناصريّة» من هذا الكتاب (١). فاختفى الأمير يشبك وطائفة من الأمراء بالقاهرة، ولحق ابن غراب


= لم يرد في المسوّدة أو المبيّضة ذكر لل «خانقاه الناصريّة»، ولا ترجمة للسّلطان الملك الناصر فرج بن برقوق، الأمر الذي يدلّ مرّة أخرى على أنّ ما وصل إلينا من كتاب «الخطط» به نقص يتعلّق على الأخصّ بفترة سلطنة الظّاهر برقوق وابنه الناصر فرج. (راجع مناقشة ذلك في المقدّمة). كما أنّ ترجمة الناصر فرج في كتاب «درر العقود الفريدة» للمقريزي ١٧: ٣ - ١٨، جاءت في غاية الاختصار، على عكس اللغة الناقدة التي استخدمها المقريزي في ترجمته للناصر فرج في السلوك ٢٢٥: ٤ - ٢٢٨، والتي اعتمد عليها أبو المحاسن بن تغري بردي في النجوم الزاهرة ١٥١: ١٣ - ١٥٣.
وما تزال «الخانقاه الناصرية» قائمة في قرافة المماليك شرق طريق صلاح سالم، ومسجلة بالآثار برقم ١٤٩. وتعدّ أكبر بناء أثري باق في قرافات مصر حيث تشغل مساحة قدرها ٧٥٠٠ مترا مربعا، وضمّت رفات صفوة من علماء مصر والصّالحين. وقد شيّدها الناصر فرج بناء على - - وصيّة والده الذي أوصى بأن تعمّر له تربة بالصّحراء خارج باب النصر تجاه تربة الأمير يونس الدّودار وأن يدفن في لحد تحت أرجل الفقراء المدفونين بها. (المقريزي: السلوك ٩٣٦: ٣ - ٩٣٧؛ أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ١٠٣: ١٢ - ١٠٤).
ويتكوّن البناء الذي شيّده الناصر فرج من جامع فسيح، وقبّتان إحداهما للظّاهر برقوق وأولاده ومن دفن من العلماء والصّالحين، والثانية لأفراد أسرته من السّيّدات، وخانقاه للصّوفية. وأقيمت الخانقاه وملحقاتها على أرض تكاد تكون مربعة فأصبحت لها أربع وجهات، الجنوبية منها تسودها البساطة، وأفخمها واجهتها الغربية وهي الواجهة الرئيسة التي يتوسّطها منارتان رشيقتان ويفتح فيها المدخل الرّئيس للخانقاه الذي حلّي بمقرنصات دقيقة وكتب على جانبيه:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم. أمر بإنشاء هذه الخانقاه الشّريفة السّلطان الأعظم مالك رقابنا سيّد ملوك العرب والعجم، مولانا السّلطان الملك الناصر ناصر الدّنيا والدّين أبو السّعادات فرج بن برقوق، أدام اللّه أيّامه».
ويجاور الخانقاه سبيل يعلوه كتّاب، وبواجهته القبلية حوض لشرب الدّواب.
راجع، المقريزي: السلوك ٩٣٦: ٣ - ٩٣٧؛ أبا المحاسن: النجوم الزاهرة ١٠٣: ١٢ - ١٠٤؛ حسن عبد الوهاب: «خانقاه فرج بن برقوق وما حولها» في كتاب المؤتمر الثالث للآثار في البلاد العربية، القاهرة ١٩٦١، ٢٨٣ - ٣٠٥؛ Lamei Mostafa، S.، Kloster und Mausoleum des Farag ibn Barquq in Kairo،؛ Gluckstadt ١٩٦٨ سعاد ماهر: مساجد مصر ٥٩: ٤ - ٦٨؛ عاصم محمد رزق: خانقاوات الصوفية في مصر ٥٣٨: ٢ - ٥٧٩، أطلس العمارة الإسلامية ١٣١: ٣ - ١٦٠.
وعن الكتابات التاريخية بالخانقاه انظر van Berchem،