للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

زوال دولته، فسوّلت له نفسه أن بعث إلى الملك الناصر بالكرك يطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمماليك، وحمّل الرّسول إليه بذلك مشافهة أغلظ عليه فيها. فحنق من ذلك، وكاتب نوّاب الشّام وأمراء مصر في السّرّ يشكو ما حلّ به، وترفّق بهم وتلطف بهم/ فرقّوا له، وامتعضوا لما به. ونزل الناصر من الكرك، وبرز عنها، فاضطرب الأمر بمصر، واختلّ الحال من بيبرس، وأخذ العسكر يسير من مصر إلى الناصر شيئا بعد شيء، وسار الناصر من ظاهر الكرك يريد دمشق في غرّة شعبان سنة تسع وسبع مائة. فعندما نزل الكسوة، خرج الأمراء وعامّة أهل دمشق إلى لقائه ومعهم شعار السّلطنة، ودخلوا به إلى المدينة - وقد فرحوا به فرحا كثيرا - في ثاني عشر شعبان، ونزل بالقلعة، وكاتب النوّاب، فقدموا عليه، وصارت ممالك الشّام كلّها تحت طاعته، يخطب له بها، ويجبى إليه مالها.

ثم خرج من دمشق بالعساكر يريد مصر، وأمر بيبرس كلّ يوم في نقص، إلى أن كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان فترك بيبرس المملكة، ونزل من قلعة الجبل ومعه خواصّه إلى جهة باب القرافة، والعامّة تصيح عليه وتسبّه، وترجمه بالحجارة - عصبيّة للملك الناصر، وحبّا له - حتى سار عن القرافة. ودعا الحرس بالقلعة في يوم الأربعاء للملك الناصر، فكانت مدّة سلطنة بيبرس عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما.

وقدم الملك الناصر إلى قلعة الجبل أوّل يوم من شوّال وجلس على تخت المملكة، واستولى على السّلطنة مرّة ثالثة. ونزل بيبرس بإطفيح، ثم صار منها إلى إخميم، فلمّا صار بها تفرّق عنه من كان معه من الأمراء والمماليك، فصاروا إلى الملك الناصر، فتوجّه في نفر يسير على طريق السويس يريد بلاد الشّام، فقبض عليه شرقي غزّة، وحمل مقيّدا إلى الملك الناصر. فوصل قلعة الجبل يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة، وأوقف بين يدي السّلطان، وقبّل الأرض، فعنّفه، وعدّد عليه ذنوبا ووبّخه، ثم أمر به فسجن في موضع إلى ليلة الجمعة خامس عشره، وفيها لحق بربّه تعالى، فحمل إلى القرافة ودفن في تربة الفارس أقطاي (١)، ثم نقل منها بعد مدّة إلى تربته بسفح المقطّم فقبر بها زمانا طويلا، ثم نقل منها ثالث مرّة إلى خانقاهه ودفن بقبّتها، وقبره هناك إلى يومنا هذا. وأدركت بالخانقاه المذكورة شيخا من صوفيّتها أخبرني أنّه حضر نقله من تربته بالقرافة إلى قبّة الخانقاه، وأنّه تولّى وضعه في مدفنه بنفسه.


(١) ما تزال بقايا تربة الفارس أقطاي موجودة في الجهة الجنوبية لقلعة الجبل على طريق صلاح سالم على يمين المتّجه إلى كوبري السيدة عائشة، ومسجلة بالآثار برقم ٢٧٧. (راجع، عاصم محمد رزق: أطلس العمارة الإسلامية ١٠٧٠: ١ - ١٠٧٨).