للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العشرين من شعبان - وقد فتح اللّه له مدينة عكّا عنوة بالسّيف، وخرّب أسوارها - وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زيّنت القاهرة زينة عظيمة (١). فعندما حاذي باب المارستان نزل إلى القبّة المنصوريّة - وقد غصّت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء - فتلقّوه كلّهم بالدّعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة، وقام نجم الدّين محمد بن فتح الدّين محمد بن عبد اللّه ابن مهلهل بن غيّاث بن نصر - المعروف بابن العنبري الواعظ (٢) - وصعد منبرا نصب له فجلس عليه، وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر، فلم يسعد فيها بحظّ، وذلك أنّه افتتحها بقوله:

[الكامل]

زر والديك وقف على قبريهما … فكأنّي بك قد نقلت إليهما (a) وكان السّلطان عنده ذكاء وفهم لمعاني الشّعر (a)، فعندما سمع الأشرف هذا البيت تطيّر منه، ونهض قائما وهو يسبّ الأمير بيدرا نائب السّلطنة لشدّة حنقه، وقال له (b): ما وجد هذا شيئا يقوله سوى هذا البيت! فأخذ بيدرا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبري بأنّه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ، ولا نظير له فيه، إلاّ أنّه لم يرزق سعادة في هذا الوقت (١). فلم يصغ السّلطان إلى قوله وسار، فانفضّ المجلس على غير شيء، وصعد السّلطان إلى قلعة الجبل.

ثم بعد أيّام سأل السّلطان عن وقف المارستان، وأحبّ أن يجدّد له وقفا من بلاد عكّا التي افتتحها بسيفه، فاستدعى السّلطان (b) القضاة، وشاورهم فيما همّ به من ذلك. فرغّبوه فيه، وحثّوه على المبادرة إليه. فعيّن أربع ضياع من ضياع عكّا وصور ليقفها على مصالح المدرسة والقبّة المنصوريّة، وما تحتاج إليه من ثمن زيت وشمع ومصابيح وبسط وكلفة السّاقية، وعلى خمسين مقرئا يرتّبون لقراءة القرآن الكريم بالقبّة، وإمام راتب يصلّي بالناس الصّلوات الخمس في محراب القبّة، وستّة خدّام يقيمون بالقبّة، وهي: الكابرة، وتلّ الشّيوخ، وكردانة وضواحيها من عكّا، ومن ساحل صور معركة وصدفين - وكتب بذلك كتاب وقف، وجعل النظر في ذلك لوزيره الصّاحب شمس الدّين محمد بن السّلعوس.


(a) (a-a) إضافة من المسوّدة.
(b) ساقطة من بولاق.
(١) المقريزي: السلوك ٧٦٤: ١؛ العيني: عقد الجمان ٥٦: ٣ - ٦٢؛ أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ٥: ٨.
(٢) حاشية بخطّ المؤلّف: «ابن العنبري هذا أخذ الوعظ عن الشّيخ عزّ الدّين عبد السّلام بن غانم المقدسي، وكان صوته عاليا طربا ورزق حظّا من ذلك، ومات بالقاهرة في سادس شعبان سنة تسع وسبع مائة».