الأفضل لقتاله، فمات منكوبا أحوج ما كان إلى الموت عند تولّي الإقبال وإقبال الإدبار في سحر يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ستّ وتسعين وخمس مائة، ودفن بتربته من القرافة الصّغرى (١).
قال ابن خلّكان: وزر للسّلطان [الملك] صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، وتمكّن منه غاية التمكّن، وبرز في صناعة الإنشاء، وفاق المتقدّمين،/ وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد الفضلاء الثّقات المطّلعين على حقيقة أمره، أنّ مسوّدات رسائله في المجلّدات والتّعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة [مجلد]، وهو مجيد في أكثرها (٢).
وقال عبد اللطيف البغدادي: دخلنا عليه فرأيت شيخا ضئيلا كلّه رأس وقلب، وهو يكتب ويملي على اثنين، ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوّة حرصه في إخراج الكلام، وكأنّه يكتب بجملة أعضائه (٣).
وكان له غرام في الكتابة وتحصيل الكتب، وكان له الدّين والعفاف والتّقى، والمواظبة على أوراد الليل، والصّيام وقراءة القرآن، وكان قليل اللذات، كثير الحسنات، دائم التّهجّد، ويشتغل بعلوم الأدب وتفسير القرآن. غير أنّه كان خفيف البضاعة من النحو، ولكن قوّة الدّراية توجب له قلّة اللحن وكان لا يكاد يضيع من زمانه شيئا إلاّ في طاعة، وكتب في الإنشاء ما لم يكتبه غيره.
وحكى لي ابن القطّان - أحد كتّابه - قال: لمّا خطب صلاح الدّين بمصر للإمام المستضيء بأمر اللّه، تقدّم إلى القاضي الفاضل بأن يكاتب الدّيوان العزيز وملوك الشّرق. ولم يكن يعرف خطابهم واصطلاحهم، فأوعز إلى العماد الكاتب أن يكتب فكتب واحتفل، وجاء بها مفضوضة ليقرأها الفاضل متبجّحا بها، فقال: لا أحتاج أن أقف عليها، وأمر بختمها وتسليمها إلى النجّاب، والعماد يبصر.
قال: ثم أمرني أن ألحق النجّاب ببلبيس، وأن أفضّ الكتب، وأكتب صدورها ونهايتها، ففعلت ورجعت بها إليه. فكتب على حذوها وعرضها على السّلطان، فارتضاها، وأمر بإرسالها إلى أربابها مع النجّاب.
(١) الموفق بن عثمان: مرشد الزوار ٦٢٠. (٢) ابن خلكان: وفيات الأعيان ١٥٨: ٣ - ١٥٩. (٣) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء ٢٠٥: ٢. ووقف المقريزي على سيرة الإمام عبد اللطيف البغدادي - مصدر النقل - بخطّه. (فيما تقدم ٣٣٥: ٣).